الأحد، 27 أغسطس 2017

مع أ.د.وليد العلي رحمه الله .. بقلم : أحمد العازمي

لا يعرف الإنسان في هذه الحياة متى يحين الأجل ، ومتى يكون موعد الفراق ، ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت ، والموفق من زكى نفسه ، وأحسن العمل لما بعد الموت ، واستعد للقاء ربه جلَّ وعلا .
ولا خير في عيشِ امرئٍ لم يكن له .. من الله في دارِ القرارِ نصيبُ
فإن تُعجِبِ الدُّنيا أُناساً فإنَّها .. متاعٌ قليلٌ والزَّوالُ قريبُ
أيادٍ آثمة اغتالت رمزاً من رموز العمل الدعوي والخيري في الكويت بل والعالم الإسلامي فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور وليد بن محمد العلي - عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت - في حادثةٍ أليمةٍ وإرهابٍ دموي استهدف أناساً أبرياء في بوركينا فاسو ، وذلك ضمن رحلةٍ علميةٍ ودعويةٍ قام بها فضيلته برفقة عدد من إخوانه الدعاة ، فرحم الله الشيخ ورفاقه وإخوانه الذين راحوا ضحية الإرهاب الدموي الذي لا يفتأ يهدد أرواح الناس وحياتهم ، ويعكر عليهم صفو أمنهم واستقرارهم .
لقد كان ما حدث لفضيلة الشيخ د.وليد العلي فاجعة لجميع أهله وطلابه ، وصدمةً مهولةً على قلوب جميع محبيه ؛ وما ذاك إلا لما كان عليه من الأخلاق الفضيلة والسجايا النبيلة التي أورثت المحبة الصادقة في نفس كل من لقيه وتعرَّف عليه رحمه الله ، فابتسامته الجميلة لا تفارقه ، ونفسه الطيبة تصافحك قبل يده ، يأسرك بعذب كلامه ، وجميل عباراته ، لا يُضمر في نفسه إلا الخير ، وباطنه أفضلُ من ظاهره ، وسرُّه خيرٌ من علانيته .
لقد أكرمني الله تعالى بأن جعلني في فترة دراستي بالكويت أحد طلاب الشيخ رحمه الله ، فما سمعته ذكر أحداً بسوء ولو لمرةٍ واحدة ، بعيدٌ كلَّ البعد عن الطعن بالآخرين والتصنيف والهمز واللمز بإخوانه ، يعفو ويصفح ، ويغفر الزلَّة ، ولا يبحث عن العثرة ، وهو ما يبين لنا سلامة صدر الشيخ ، ونقاء قلبه وصفائه وطُهره، وسُمُوِّ نفسه ، وكراهتها سفاسف الأمور ، ومحبتها لمعاليها ومراقيها .
يخاطب طلابه وكأنهم أبناؤه وإخوانه ، ليس في عباراته لهم سوى الود والإخاء وخالص الدعاء لهم بالتوفيق والسداد والحفظ والرعاية ، ولا أذكر أن أحداً من الطلاب قد اشتكى يوماً ظلمه له في الدرجات أو تقصُّده إياه بالإيذاء بل على النقيض من ذلك ، فقد كان يُكرم طلبته في الدرجات ، ويعطيهم حقهم وزيادة على ذلك ؛ إحساناً له منهم ، وبُعداً عن ظلمهم ، وما حظي به من مكانةٍ في المجتمع والدولة لم يجعله يتعالى على أحدٍ من طلابه فضلاً عن أصحابه وزملائه ، وما أرسلت له رسالة نصية على هاتفه إلا وردَّ بأحسن منها رحمه الله ، وخصَّني بسببها بالدعاء ، فنِعْمَ الأستاذ كان ونِعْمَ المُربي .
وقد كان رحمه الله يولي الطلبة الوافدين عنايةً خاصةً ؛ محبةً له منهم ، وإعانةً لهم على تحقيق ما من أجله تركوا أهليهم وتغرَّبوا عن أوطانهم ، وكان يوصي زملاءه الأساتذة بالكلية بهم خيراً ، وقد  كلَّمته ذات مرةٍ بأن يعقد لطلبة مملكة البحرين الدارسين بجامعة الكويت دورة علمية خاصة بهم في " العقيدة الإسلامية وتاريخها " فما تردد لحظةً واحدةً في الموافقة على طلبي ، وتم بحمد الله الاتفاق على الموعد وتمت الدورة بالمسجد الكبير .
كان رحمه الله يقرر معتقد أهل السنة والجماعة بأدلةٍ ثابتة ، وأصولٍ رصينة ، وأجوبةٍ بديعة ، يدعو إلى الله على بصيرة وعلمٍ وهدى ورشاد ، قد أوتي حكمةً في الدعوة جعلته مقدماً على كثيرٍ من أقرانه ، فالوسطية والاعتدال منهجه ، والتوازن في الطرح ديدنه ، والرفق واللين سلوكه ، همُّه في هذه الحياة وشغله الشاغل نشر دين الله جلَّ وعلا ، فهو ما بين محاضرةٍ هنا أو دورةٍ علميةٍ هناك ، يعكف على التحقيق والتأليف الساعات الطوال ، فلا يكل ولا يمل ، ومؤلفاته وتحقيقاته شاهدةٌ على مدى جدِّه واجتهاده وهمَّته العالية ، رجلٌ قد صدق الله فصدقه الله .
قد أحبَّ الشيخ رحمه الله وطنَه فأحبَّهُ وطنُه ، ولطالما صدع من منبره بالحفاظ على الوطن ومكتسباته ، والتمسك بأمنه واستقراره ، وحذَّر من خلاله من الفرقة والاختلاف الذي يهدد كيان المجتمعات والأوطان ، وكانت الدعوة إلى اجتماع الكلمة والتآلف والتآخي والتصافي ووحدة الصف حاضرةً في خطبه تغمده الله بواسع رحمته .
إن كل ما سبق ذكره مما امتاز به فضيلة الشيخ وليد رحمة الله عليه ، وهو ما جعل ولاة الأمر بالكويت يثقون به وبسلامة فكره ومنهجه ، مما جعلهم يسندون إليه العديد من المهام المتعلقة بالدعوة بالكويت ، والتي من ضمنها : إمامته وخطابته بالمسجد الكبير ، وعضويته بلجنة إعداد الخطبة النموذجية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، وعضويته كذلك باللجنة العليا لجائزة الكويت الدولية لحفظ القرآن الكريم وقراءاته وتجويد تلاوته ، ولجنة اختبارات الأئمة والمؤذنين، ولجنة الوظائف الدينية ، والهيئة الشرعية لبيت الزكاة ، ولجنة تأهيل أصحاب الفكر المتطرِّف بالسجن المركزي ، هذا بالإضافة إلى عمله كأستاذٍ بقسم العقيدة والدعوة وتوليه منصب العميد المساعد لشؤون الأبحاث والاستشارات والتدريب بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت .. كل ذلك يدل على مدى الثقة التي كان يحظى بها الشيخ وليد رحمه الله .
ولا عجب أن يتأثر رأس الدولة بالكويت صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح – حفظه الله - بوفاته ، فالكويت لم تفقد شخصاً عادياً وإنما فقدت رمزاً من رموزها، رمزٌ له أثره الكبير والبيِّن في الدولة ، وله جهوده البارزة في الدعوة إلى الحفاظ على أمن البلاد والسعي إلى إصلاح العباد .

رحم الله الشيخ د.وليد العلي وأسكنه فسيح جناته وبلغه مراتب الشهداء وربط على قلب أهله وطلابه ومحبيه ، وإن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرنا في مصيبتنا ، واخلفنا خيراً منها { وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } . 

الثلاثاء، 16 مايو 2017

مخابراتٌ في مجلس وزيرٍ سابق ! بقلم : أحمد العازمي

كان رجاء بن حيوة رحمه الله وزيراً ومستشاراً عند عدد من خلفاء بني أمية ، وكان كبير المنزلة عندهم ورفيع الشأن حتى تم إبعاده والاستغناء عن خدماته بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ؛ وذلك أنه كان سبباً في تولية عمر الخلافة من بعد سليمان بن عبدالملك وتقديمه على غيره من بني أمية إضافة إلى جملة من أعماله ومشوراته التي لم تكن محل الرضى من قبل العديد من أمراء بني أمية الظلمة .
لم يضر رجاء بن حيوة إبعاده وإقصاؤه عن مواطن صنع القرار ؛ وذلك أنه كان أحد العلماء العاملين بعلمهم الذين لم يزدهم قربهم من الخلفاء إلا رفعةً ومنزلةً ومحبةً في قلوب الناس ، ولهذا لما تم إعفاؤه من منصبه عاد ليكون مع بقية الناس الذين كانوا محبين له عالماً ووزيراً ، وأقبل على التعليم والتدريس ، ولم ينشغل أبداً في الانتقام لنفسه ، ولا بالمكائد والمؤامرات ضد السلطة الحاكمة ، ولم يؤسس حزباً ولا جماعةً يكون همُّها وهدفها إسقاط الدولة أو إفشالها ، وهذا هو الفرق بين الوزير الصادق الأمين الذي ينتمي لهذه الأمة ، ويعمل لمصلحتها ، ولما فيه رفعة شأنها ، وبين وزيرٍ خائنٍ للأمانة ومضيعٍ لها ، ولاؤه لدولٍ أجنبية تسعى لتفريق هذه الأمة وإضعافها .
إن محبة الناس لرجاء بن حيوة وشعبيته وما وضع الله له من القبول بينهم جعلت من قام بإبعاده يخشى منه لا سيما أنهم قد رأوا من حكمته وحنكته السياسية ما أبهرهم به أثناء توليه الوزارة ، وقد اجتمعت تلك الخشية منه مع عداوتهم له وحقدهم عليه ؛ وذلك أنه رحمه الله كان واقفاً مع الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه لله في رد المظالم إلى أهلها ، وانتزاع ما في أيدي أولئك الأمراء الظلمة مما أخذوه واستولوا عليه بغير وجه حق ، فجاء الوقت للانتقام بوجهة نظرهم .
عيَّن الخليفة هشام بن عبد الملك شخصاً خاصاً يعمل عمل المخابرات بمراقبة الوزير السابق رجاء بن حيوة، فيحضر مجالسه ، ويكتب تقاريره ، ومن ثم يرفعها إليه ، فأدرك ذلك الشخص المهمة الموكلة إليه ، وبدأ العمل بما وكِّل به ، وكان يحاول الإيقاع برجاء ومصادمته مع الخليفة هشام ؛ حتى يرفع تقريراً يرضى به عنه ، ويرتقي عن طريقه في عمله على كتف رجاء إلا أن رجاء كان واعياً لتلك المكائد التي تُكاد له ، وكان أشد ذكاءً من ذلك الذي تم تعيينه كعنصرٍ " مخابراتي " عليه ، يعمل على مراقبته، ورفع التقارير عنه ليل نهار ، فقلب الطاولة عليه ، وأبان عن ضعفه ، وأوقعه في شرِّ شباكه ومكائده في حادثةٍ سجلها التاريخ.
كان رجاء جالساً في أحد المجالس التي يتذاكر فيها مع إخوانه ومحبيه وطلابه العلم ، ويذكِّر فيها بالله تعالى، فتذاكروا شكر نعم المولى جلَّ وعلا ، وكان مما قال : ( ما أحدٌ يقوم بشكر نعمة ) يريد أن يبين لهم بذلك أنه مهما حاولوا شكر نعم الله تعالى فإنهم لن يقدروا على إيفاء ذلك والقيام به حق القيام ؛ وذلك أن نعمه سبحانه كثيرةٌ لا تُحصى ، فما كان من ذلك الرجل المعيَّن لمراقبة رجاء – وقد كان على رأسه كساء – إلا أن يرفع الكساء من على رأسه ويقول : (ولا أمير المؤمنين ؟) ، فعجب من كان حاضراً المجلس من هذا الرجل ومن مقولته ، فقال له رجاء : ( وما ذِكْرُ أمير المؤمنين هنا ؟! وإنما هو رجلٌ من الناس ) ، يريد أن يقول له : ما مقصدك من هذا السؤال ؟! وما علاقة الخليفة بما نتذاكره ونتدارسه ؟! وعلامَ إقحام ذكره في المجلس ؟! ، ومكث ذلك الرجل برهةً حتى يغفل الناس عنه ثم خرج ، فالتفت رجاء نحوه فلم يره ، فقال : ( أُتيتُم من صاحب الكساء ، فإن دُعيتم فاستُحلفتُم فاحلفوا ) ، علم رحمه الله أن ذلك الرجل ذهب ليرفع تقريراً إلى الخليفة يتهمه فيه بانتقاص الخليفة والإساءة إليه !
وبينما هم جلوسٌ إذ جاء أحد حرس الخلافة إلى رجاء ؛ ليبلغه بأن الخليفة قد أمر بإحضاره ، وأن عليه مرافقته إلى مجلس الخليفة ، فذهب رجاء مع الحارس إلى الخليفة هشام بن عبدالملك ودخل عليه ، فقال له هشام : ( هيه يا رجاء ، يُذكر أمير المؤمنين فلا تحتجُّ له ؟! ) ، فسأله رجاء : (وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟)، فذكر له هشام ما حدث في المجلس ، فقال رجاء : ( لم يكن ذلك ) ، فاستغرب هشام من إنكار رجاء والتقرير المرفوع إليه يُثبت خلاف ذلك مع علم ويقين هشام بأن رجاء لا يمكن أن يكذب – وقد كان إنكاره رحمه الله لتهمة الانتقاص من شأن الخليفة والإساءة إليه - ، فاستحلفه وقال : ( آ الله ؟ ) قال : ( آ الله ) ، فما كان من هشام إلا أن يستشيط غضباً ، ويأمر بذلك الرجل الساعي أن يُضرب سبعين سوطاً ، يقول رجاء : ( فخرجت وهو متلوثٌ بدمه ) .
إنكار رجاء بن حيوة لما طرحه عليه الخليفة وعدم إقراره به أثار استغراب ذلك الرجل " المخابراتي " صاحب الكساء ، فقال لرجاء : ( هذا وأنت رجاء بن حيوة ! ) فقال له : ( سبعين سوطاً في ظهرك خيرٌ من دمِ مؤمن ) ، وكان رجاء بعد ذلك إذا جلس في مجلسٍ يتلفَّت ويقول : ( احذروا صاحب الكساء ) .

الاثنين، 8 مايو 2017

الوزير العادل والمستشار المؤتمن بقلم : أحمد العازمي

كان رحمه الله كبير المنزلة وعظيم الشأن عند عدد من خلفاء بني أمية كعبدالملك بن مروان ، وسليمان بن عبدالملك ، وعمر بن عبدالعزيز ، وقد أجرى الله تعالى على يديه – كما ذكر الإمام الذهبي في سيرته – الخيرات ؛ وذلك أنه كان من أولئك الوزراء المخلصين والمستشارين المؤتمنين الذين إذا نسي الخليفة ذكَّروه ، وإذا ذكر أعانوه ، وكان ينظر إلى الأمور نظر العالم البصير الذي يدرك العواقب والمآلات .
لم يكن قربه من الخلفاء من أجل حُطام الدنيا ومتاعها ، ولا لنيل المكاسب الشخصية الآنية ، وإنما كان لإحقاق الحق، ورفع المظالم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبذل النصح ، والمشورة الصادقة .. فلا هو ذاك الوزير الذي يسعى لقضاء حوائجه ، ولا ذاك المستشار الذي يقدم أمره الخاص على أمر العامة .
لم تغلبه نفسه طوال خدمته مع الخلفاء في التعدي على بيت مال المسلمين ، ولا أخذ تلك الرشاوى التي  يقدمها من يقدمها من أجل ذكرهم عند الخلفاء ، ولم يُعلم عنه أنه استغلَّ منصبه مرةً من المرات في تقديم من لا يستحق وإعطائه ما لا يستحق ، وكيف يفعل ذلك من كانت المصلحة العليا للدولة ولعموم المسلمين هي همُّه وشغله الشاغل في ليله ونهاره ؟!
مشوراته كلها كانت فيما به مصلحة المسلمين ، ولم يكن كأولئك الوزراء والمستشارين الذين يقدمون المشورات بناءً على ما يُحب ويرغب الخليفة ، وإنما كانت الغاية والهدف أسمى من ذلك بكثير ، وليس ذلك بغريب عندما يوسد الأمر إلى أهله ، ويكون صاحب الكفاءة الأمين هو الوزير والمستشار .
ذاك الذي أتحدث عنه هو العالم الفقيه الثقة الإمام القدوة والوزير العادل والمستشار المؤتمن رجاء بن حيوة الذي كان يعلم علم اليقين أن الدنيا وما فيها من مناصب كلها زائلة ، وأن الدار الآخرة وما فيها هي الباقية ، فكيف يقدم العاقل ما هو زائل على ما هو باقٍ ؟!
كان رحمه الله يوماً عند الخليفة عبدالملك بن مروان ، وقد ذُكر عنده شخص بسوء ، فأخذ عبدالملك يهدد ويتوعد ويقول : ( واللـه لئن أمكنني اللـه منه لأفعلن به ولأصنعن ) ، فلما أمكنه اللـه منه همَّ بإيقاع الأذى به ومعاقبته ، فما كان من الوزير العادل والمستشار المؤتمن رجاء بن حيوة إلا أن يقوم ناصحاً ويقول: ( يا أمير المؤمنين قد صنع اللـه لك ما أحببت فاصنع ما يحب اللـه من العفو ) ، فوقعت تلك النصيحة الصادقة في قلب عبدالملك ، وما كان قراره إلا العفو عن ذلك الرجل والإحسان إليه .
وقد كانت من أعظم المشورات التي أشار بها رجاء بن حيوة رحمه الله على الخليفة سليمان بن عبدالملك رحمه الله قبل وفاته - وقد نفع الله بتلك المشورة الأمة أيما نفعٍ - هي مشورته عليه عندما مرض بتولية عمر بن عبدالعزيز خليفةً على المسلمين من بعده عندما سأله سليمان : من ترى لهذا الأمر ؟ فأجابه مذكراً له بالله تعالى : ( اتق الله ، فإنك قادمٌ على الله تعالى ، وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه ) ثم أشار عليه بتولية عمر بعد حوارٍ دار بينهما ، فما كان من الخليفة المقبل على ربه إلا أن يتذكر وقوفه أمام الله جل وعلا ، وسؤاله إياه عن هذه الأمة ، وعمَّن ولاها أمرها من بعده ، فيستجيب لتلك المشورة الصادقة ، ويولي من بعده عمر بن عبدالعزيز خليفةً على المسلمين ، وقد كانت تلك المشورة سبباً في إبعاد الوزير والمستشار رجاء بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز ومعاداة العديد من أمراء بني أمية له .
خرج رجاء بن حيوة من الوزارة وخلع ثوب المستشار بعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، وتم إبعاده عن مواطن صنع القرار ، ولكنه لم يخرج إلا بسيرته الطيبة ، وأمانته المعهودة ، ومبادئه الراسخة، وعمله النبيل ، ومشوراته الصادقة ، وتاريخه الناصع ، فلم يشارك في قرارٍ جائرٍ تُظلم فيه الرعية، ولا في مشورةٍ يكون بها إعطاء من لا يستحق ما لا يستحق ، وكان مثالاً للوزير العادل الصادق الأمين الذي يُفتخر بذكره وبيان مناقبه وفضائله ومآثره ، وحُقَّ لأمير السرايا مسلمة بن عبدالملك أن يقول: ( برجاء بن حيوة وبأمثاله نُنصر ) .

الخميس، 16 مارس 2017

آهٍ ثمَّ آه بقلم : أحمد العازمي

قبل ذهابي للدراسة بجامعة الكويت في مرحلة البكالوريوس نصحني أحد المشايخ الفضلاء في البحرين بقراءة أحد الكتب التي اهتمت ببيان آداب طلب العلم ، وذكر لي بأن مؤلف هذا الكتاب أحد الأساتذة الذين يدرِّسون بالجامعة ، وفعلاً حرصت على قراءة ذلك الكتاب من أوله إلى آخره ، وقد استفدت كثيراً من تلك الآداب التي ذكرها المؤلف في طلب العلم حيث أن كثيراً منها عبارة عن نقولات عن السلف الصالح في ذلك.
وعندما ذهبت للدراسة بالكويت حرصت على رؤية ذلك المؤلف ، وسألت عنه بالكلية ، وأرشدني أحد الأساتذة إلى مكان مكتبه ، فأسرعت الخطى، وكلي شوق لرؤيته ، والسلام عليه ، فوصلت إلى باب مكتبه ، وكان ذلك في الساعة الثامنة إلا ربع صباحاً تقريباً ، فطرقت الباب ، وألقيت عليه التحية تحية الإسلام فقلت : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإذ بي أفاجأ بذلك الأستاذ يصرخ بوجهي دون حتى أن يرد عليَّ السلام قائلاً : نعم ، ماذا تريد؟ والله عندي محاضرة بعد قليل ؟ يا أخي ماذا تريد ؟ بصوتٍ عالٍ جداً ، فوقفت عندها مذهولاً من ذلك الموقف ، وقد انعقد لساني ، فلم أستطع حتى أن أرد عليه بشيء ، فلما رآني كذلك خفف من نبرته ، ولكنه لم يخفف من جفوته وشدته ، فقال : نعم ماذا تريد ؟ قلت : لا شيء ، فقال : هل أنت طالب عندي ؟ قلت : لا، شكراً ، وخرجت .
وبعد عدة فصول اضطررت لأخذ أحد المقررات الدراسية عند ذلك الدكتور ، ولم أستفد في الحقيقة أي فائدة منه رغم حصولي على درجة الامتياز في المقرر ؛ وذلك أنه كان منشغلاً طوال المحاضرات في الكلام حول الأحزاب والجماعات ، وانتقاد فلان وعلان ، والحديث عن سفراته الخاصة ، ونزهاته البرية ، وما يأكله وما لا يأكله ! مضيِّعاً بذلك أوقات المحاضرة فيما لا فائدة منه ! ولا أقول ذلك مبالغة ، فمن أخذ معي من الإخوة ذلك المقرر يذكر ذلك جيداً .
لقد كان ذلك الموقف من أشد المواقف التي مرت عليَّ في مرحلة البكالوريوس ، وقد استمرَّ أثره في قلبي عدة أيام، والسبب أن من كنت في شوقٍ إلى لقائه بعد قراءتي لكتابه قد خالف أهم المبادئ التي أخذ بالتأصيل لها والتأكيد عليها في مؤلَّفِهِ الذي يتحدث فيه عما يجب وينبغي أن يكون عليه طالب العلم من الأخلاق الفاضلة ، فأين هي تلك الأصول والمبادئ والأخلاق التي ذكرها فضيلة الدكتور ؟!
ومع مرور الأيام والشهور والسنوات صدمت أكثر بالواقع الذي نعيشه ؛ فقد رأيت العديد من أولئك الذين يؤصلون للمبادئ والقيم هم أول من يخالفها في ممارساتهم العملية في الحياة ، منتهى التناقض بين أقوالهم وأفعالهم ، تراه يحدث عن الصدق وهو أكذب الكاذبين ، يذكر أن من صفات المنافقين إخلاف الوعد وهو لا يلتزم بأي وعدٍ يقطعه على نفسه تجاه الآخرين ، يتحدث عن خشية الله ومخافة الله وهو أول من ينتهك محارم الله ، يأمر بالعدل ولا يأتيه ، وينهى عن الظلم ويقع فيه ، يدعو إلى الأمانة ولا يقوم بها ، ويحذر من الخيانة وهو رأسٌ بين أصحابها ، يحث الناس على أداء الحقوق إلى أصحابها وهو أول من يمنعها ويجحد الآخرين حقوقهم ، ينبِّه بحق المسلم على أخيه المسلم وهو ينتهك تلك الحقوق في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة ، يخاطب الناس آمراً لهم بالوحدة والاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف وهو من يعمل ليل نهار في تفكيك وحدة الأمة واجتماع كلمتها وبث روح الكراهية والعداوة والبغضاء بين أبناء المسلمين !
آهٍ ثم آه ، واقعٌ مريرٌ نعيشه يحتاج منا إلى إعادة محاسبة أنفسنا ، حتى نكون على قدرٍ من المسؤولية تجاه ديننا الإسلامي ، فإن هذا الدين لا يمكن أن ينتشر ولا أن يقوى بأمثال أولئك الذين تكون أقوالهم في وادٍ وأفعالهم في وادٍ آخر ، إن هذا الدين يحتاج إلى رجال صادقين مع الله قبل أن يكونوا صادقين مع الناس ، وذلك أن صدقهم مع الله جل وعلا سيقودهم حتماً إلى الصدق مع الناس { منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } .
لا نحتاج اليوم إلى الساعات الطوال التي نقضيها في التأليف والتنظير ، وإنما نحتاج إلى الدقائق والثواني البسيطة التي نترجم فيها ما ننظر له ونتحدث به في المجالس والخطب والدروس والمحاضرات إلى واقعٍ عملي يتفيَّأ الناس ظلاله ، فإن ذلك والله أبلغ بكثير من كل تلك الخطب والدروس والمحاضرات ، إننا اليوم بأمس الحاجة إلى ذلك المسلم الحقيقي الذي يطبق تعاليم دينه في حياته اليومية ، فمجرد معرفة تعاليم الدين لا تكفي بل إنها تكون حجة على صاحبها يوم القيامة لا سيما إن كان من أهل العلم وطلبته .
وعيدٌ شديد ذكره النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لمن كانت أفعالهم مناقضةً لأقوالهم حيث يقول عليه الصلاة والسلام : ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتابُ بطنه ، فيدور بها كما يدور الحمار بالرَّحى ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ما لكَ ؟! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟! فيقول : بلى ، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه ) .
إن مثل هذه الإشكالية التي باتت اليوم تزداد بشكلٍ ملاحظ ليست مسألةً فرعيةً ثانوية بل هي مسألةٌ منهجيةٌ أساسية تستلزم علينا جميعاً السعي لمعالجتها بالتربية الإسلامية الأصيلة لأنفسنا وأبنائنا ، المبنية على العلم والعمل ، ندعو إلى الصدق لا بد أن نكون صادقين ، نحذر من الظلم فنكون أبعد الناس عنه ، نأمر بالمعروف ونأتيه ، وننهى عن المنكر فنكون أول المجتنبين له ، وهكذا ، فلا بد أن تصدق أفعالنا أقوالنا وإلا كنا من أولئك الذين ذمهم الله في كتابه الكريم بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }.