الثلاثاء، 16 مايو 2017

مخابراتٌ في مجلس وزيرٍ سابق ! بقلم : أحمد العازمي

كان رجاء بن حيوة رحمه الله وزيراً ومستشاراً عند عدد من خلفاء بني أمية ، وكان كبير المنزلة عندهم ورفيع الشأن حتى تم إبعاده والاستغناء عن خدماته بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ؛ وذلك أنه كان سبباً في تولية عمر الخلافة من بعد سليمان بن عبدالملك وتقديمه على غيره من بني أمية إضافة إلى جملة من أعماله ومشوراته التي لم تكن محل الرضى من قبل العديد من أمراء بني أمية الظلمة .
لم يضر رجاء بن حيوة إبعاده وإقصاؤه عن مواطن صنع القرار ؛ وذلك أنه كان أحد العلماء العاملين بعلمهم الذين لم يزدهم قربهم من الخلفاء إلا رفعةً ومنزلةً ومحبةً في قلوب الناس ، ولهذا لما تم إعفاؤه من منصبه عاد ليكون مع بقية الناس الذين كانوا محبين له عالماً ووزيراً ، وأقبل على التعليم والتدريس ، ولم ينشغل أبداً في الانتقام لنفسه ، ولا بالمكائد والمؤامرات ضد السلطة الحاكمة ، ولم يؤسس حزباً ولا جماعةً يكون همُّها وهدفها إسقاط الدولة أو إفشالها ، وهذا هو الفرق بين الوزير الصادق الأمين الذي ينتمي لهذه الأمة ، ويعمل لمصلحتها ، ولما فيه رفعة شأنها ، وبين وزيرٍ خائنٍ للأمانة ومضيعٍ لها ، ولاؤه لدولٍ أجنبية تسعى لتفريق هذه الأمة وإضعافها .
إن محبة الناس لرجاء بن حيوة وشعبيته وما وضع الله له من القبول بينهم جعلت من قام بإبعاده يخشى منه لا سيما أنهم قد رأوا من حكمته وحنكته السياسية ما أبهرهم به أثناء توليه الوزارة ، وقد اجتمعت تلك الخشية منه مع عداوتهم له وحقدهم عليه ؛ وذلك أنه رحمه الله كان واقفاً مع الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه لله في رد المظالم إلى أهلها ، وانتزاع ما في أيدي أولئك الأمراء الظلمة مما أخذوه واستولوا عليه بغير وجه حق ، فجاء الوقت للانتقام بوجهة نظرهم .
عيَّن الخليفة هشام بن عبد الملك شخصاً خاصاً يعمل عمل المخابرات بمراقبة الوزير السابق رجاء بن حيوة، فيحضر مجالسه ، ويكتب تقاريره ، ومن ثم يرفعها إليه ، فأدرك ذلك الشخص المهمة الموكلة إليه ، وبدأ العمل بما وكِّل به ، وكان يحاول الإيقاع برجاء ومصادمته مع الخليفة هشام ؛ حتى يرفع تقريراً يرضى به عنه ، ويرتقي عن طريقه في عمله على كتف رجاء إلا أن رجاء كان واعياً لتلك المكائد التي تُكاد له ، وكان أشد ذكاءً من ذلك الذي تم تعيينه كعنصرٍ " مخابراتي " عليه ، يعمل على مراقبته، ورفع التقارير عنه ليل نهار ، فقلب الطاولة عليه ، وأبان عن ضعفه ، وأوقعه في شرِّ شباكه ومكائده في حادثةٍ سجلها التاريخ.
كان رجاء جالساً في أحد المجالس التي يتذاكر فيها مع إخوانه ومحبيه وطلابه العلم ، ويذكِّر فيها بالله تعالى، فتذاكروا شكر نعم المولى جلَّ وعلا ، وكان مما قال : ( ما أحدٌ يقوم بشكر نعمة ) يريد أن يبين لهم بذلك أنه مهما حاولوا شكر نعم الله تعالى فإنهم لن يقدروا على إيفاء ذلك والقيام به حق القيام ؛ وذلك أن نعمه سبحانه كثيرةٌ لا تُحصى ، فما كان من ذلك الرجل المعيَّن لمراقبة رجاء – وقد كان على رأسه كساء – إلا أن يرفع الكساء من على رأسه ويقول : (ولا أمير المؤمنين ؟) ، فعجب من كان حاضراً المجلس من هذا الرجل ومن مقولته ، فقال له رجاء : ( وما ذِكْرُ أمير المؤمنين هنا ؟! وإنما هو رجلٌ من الناس ) ، يريد أن يقول له : ما مقصدك من هذا السؤال ؟! وما علاقة الخليفة بما نتذاكره ونتدارسه ؟! وعلامَ إقحام ذكره في المجلس ؟! ، ومكث ذلك الرجل برهةً حتى يغفل الناس عنه ثم خرج ، فالتفت رجاء نحوه فلم يره ، فقال : ( أُتيتُم من صاحب الكساء ، فإن دُعيتم فاستُحلفتُم فاحلفوا ) ، علم رحمه الله أن ذلك الرجل ذهب ليرفع تقريراً إلى الخليفة يتهمه فيه بانتقاص الخليفة والإساءة إليه !
وبينما هم جلوسٌ إذ جاء أحد حرس الخلافة إلى رجاء ؛ ليبلغه بأن الخليفة قد أمر بإحضاره ، وأن عليه مرافقته إلى مجلس الخليفة ، فذهب رجاء مع الحارس إلى الخليفة هشام بن عبدالملك ودخل عليه ، فقال له هشام : ( هيه يا رجاء ، يُذكر أمير المؤمنين فلا تحتجُّ له ؟! ) ، فسأله رجاء : (وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟)، فذكر له هشام ما حدث في المجلس ، فقال رجاء : ( لم يكن ذلك ) ، فاستغرب هشام من إنكار رجاء والتقرير المرفوع إليه يُثبت خلاف ذلك مع علم ويقين هشام بأن رجاء لا يمكن أن يكذب – وقد كان إنكاره رحمه الله لتهمة الانتقاص من شأن الخليفة والإساءة إليه - ، فاستحلفه وقال : ( آ الله ؟ ) قال : ( آ الله ) ، فما كان من هشام إلا أن يستشيط غضباً ، ويأمر بذلك الرجل الساعي أن يُضرب سبعين سوطاً ، يقول رجاء : ( فخرجت وهو متلوثٌ بدمه ) .
إنكار رجاء بن حيوة لما طرحه عليه الخليفة وعدم إقراره به أثار استغراب ذلك الرجل " المخابراتي " صاحب الكساء ، فقال لرجاء : ( هذا وأنت رجاء بن حيوة ! ) فقال له : ( سبعين سوطاً في ظهرك خيرٌ من دمِ مؤمن ) ، وكان رجاء بعد ذلك إذا جلس في مجلسٍ يتلفَّت ويقول : ( احذروا صاحب الكساء ) .

الاثنين، 8 مايو 2017

الوزير العادل والمستشار المؤتمن بقلم : أحمد العازمي

كان رحمه الله كبير المنزلة وعظيم الشأن عند عدد من خلفاء بني أمية كعبدالملك بن مروان ، وسليمان بن عبدالملك ، وعمر بن عبدالعزيز ، وقد أجرى الله تعالى على يديه – كما ذكر الإمام الذهبي في سيرته – الخيرات ؛ وذلك أنه كان من أولئك الوزراء المخلصين والمستشارين المؤتمنين الذين إذا نسي الخليفة ذكَّروه ، وإذا ذكر أعانوه ، وكان ينظر إلى الأمور نظر العالم البصير الذي يدرك العواقب والمآلات .
لم يكن قربه من الخلفاء من أجل حُطام الدنيا ومتاعها ، ولا لنيل المكاسب الشخصية الآنية ، وإنما كان لإحقاق الحق، ورفع المظالم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبذل النصح ، والمشورة الصادقة .. فلا هو ذاك الوزير الذي يسعى لقضاء حوائجه ، ولا ذاك المستشار الذي يقدم أمره الخاص على أمر العامة .
لم تغلبه نفسه طوال خدمته مع الخلفاء في التعدي على بيت مال المسلمين ، ولا أخذ تلك الرشاوى التي  يقدمها من يقدمها من أجل ذكرهم عند الخلفاء ، ولم يُعلم عنه أنه استغلَّ منصبه مرةً من المرات في تقديم من لا يستحق وإعطائه ما لا يستحق ، وكيف يفعل ذلك من كانت المصلحة العليا للدولة ولعموم المسلمين هي همُّه وشغله الشاغل في ليله ونهاره ؟!
مشوراته كلها كانت فيما به مصلحة المسلمين ، ولم يكن كأولئك الوزراء والمستشارين الذين يقدمون المشورات بناءً على ما يُحب ويرغب الخليفة ، وإنما كانت الغاية والهدف أسمى من ذلك بكثير ، وليس ذلك بغريب عندما يوسد الأمر إلى أهله ، ويكون صاحب الكفاءة الأمين هو الوزير والمستشار .
ذاك الذي أتحدث عنه هو العالم الفقيه الثقة الإمام القدوة والوزير العادل والمستشار المؤتمن رجاء بن حيوة الذي كان يعلم علم اليقين أن الدنيا وما فيها من مناصب كلها زائلة ، وأن الدار الآخرة وما فيها هي الباقية ، فكيف يقدم العاقل ما هو زائل على ما هو باقٍ ؟!
كان رحمه الله يوماً عند الخليفة عبدالملك بن مروان ، وقد ذُكر عنده شخص بسوء ، فأخذ عبدالملك يهدد ويتوعد ويقول : ( واللـه لئن أمكنني اللـه منه لأفعلن به ولأصنعن ) ، فلما أمكنه اللـه منه همَّ بإيقاع الأذى به ومعاقبته ، فما كان من الوزير العادل والمستشار المؤتمن رجاء بن حيوة إلا أن يقوم ناصحاً ويقول: ( يا أمير المؤمنين قد صنع اللـه لك ما أحببت فاصنع ما يحب اللـه من العفو ) ، فوقعت تلك النصيحة الصادقة في قلب عبدالملك ، وما كان قراره إلا العفو عن ذلك الرجل والإحسان إليه .
وقد كانت من أعظم المشورات التي أشار بها رجاء بن حيوة رحمه الله على الخليفة سليمان بن عبدالملك رحمه الله قبل وفاته - وقد نفع الله بتلك المشورة الأمة أيما نفعٍ - هي مشورته عليه عندما مرض بتولية عمر بن عبدالعزيز خليفةً على المسلمين من بعده عندما سأله سليمان : من ترى لهذا الأمر ؟ فأجابه مذكراً له بالله تعالى : ( اتق الله ، فإنك قادمٌ على الله تعالى ، وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه ) ثم أشار عليه بتولية عمر بعد حوارٍ دار بينهما ، فما كان من الخليفة المقبل على ربه إلا أن يتذكر وقوفه أمام الله جل وعلا ، وسؤاله إياه عن هذه الأمة ، وعمَّن ولاها أمرها من بعده ، فيستجيب لتلك المشورة الصادقة ، ويولي من بعده عمر بن عبدالعزيز خليفةً على المسلمين ، وقد كانت تلك المشورة سبباً في إبعاد الوزير والمستشار رجاء بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز ومعاداة العديد من أمراء بني أمية له .
خرج رجاء بن حيوة من الوزارة وخلع ثوب المستشار بعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، وتم إبعاده عن مواطن صنع القرار ، ولكنه لم يخرج إلا بسيرته الطيبة ، وأمانته المعهودة ، ومبادئه الراسخة، وعمله النبيل ، ومشوراته الصادقة ، وتاريخه الناصع ، فلم يشارك في قرارٍ جائرٍ تُظلم فيه الرعية، ولا في مشورةٍ يكون بها إعطاء من لا يستحق ما لا يستحق ، وكان مثالاً للوزير العادل الصادق الأمين الذي يُفتخر بذكره وبيان مناقبه وفضائله ومآثره ، وحُقَّ لأمير السرايا مسلمة بن عبدالملك أن يقول: ( برجاء بن حيوة وبأمثاله نُنصر ) .