لا يعرف الإنسان في هذه
الحياة متى يحين الأجل ، ومتى يكون موعد الفراق ، ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت ،
والموفق من زكى نفسه ، وأحسن العمل لما بعد الموت ، واستعد للقاء ربه جلَّ وعلا .
ولا خير في عيشِ امرئٍ لم
يكن له .. من الله في دارِ القرارِ نصيبُ
فإن تُعجِبِ الدُّنيا
أُناساً فإنَّها .. متاعٌ قليلٌ والزَّوالُ قريبُ
أيادٍ آثمة اغتالت رمزاً
من رموز العمل الدعوي والخيري في الكويت بل والعالم الإسلامي فضيلة الشيخ الأستاذ
الدكتور وليد بن محمد العلي - عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية
بجامعة الكويت - في حادثةٍ أليمةٍ وإرهابٍ دموي استهدف أناساً أبرياء في بوركينا
فاسو ، وذلك ضمن رحلةٍ علميةٍ ودعويةٍ قام بها فضيلته برفقة عدد من إخوانه الدعاة ،
فرحم الله الشيخ ورفاقه وإخوانه الذين راحوا ضحية الإرهاب الدموي الذي لا يفتأ
يهدد أرواح الناس وحياتهم ، ويعكر عليهم صفو أمنهم واستقرارهم .
لقد كان ما حدث لفضيلة
الشيخ د.وليد العلي فاجعة لجميع أهله وطلابه ، وصدمةً مهولةً على قلوب جميع محبيه
؛ وما ذاك إلا لما كان عليه من الأخلاق الفضيلة والسجايا النبيلة التي أورثت
المحبة الصادقة في نفس كل من لقيه وتعرَّف عليه رحمه الله ، فابتسامته الجميلة لا
تفارقه ، ونفسه الطيبة تصافحك قبل يده ، يأسرك بعذب كلامه ، وجميل عباراته ، لا
يُضمر في نفسه إلا الخير ، وباطنه أفضلُ من ظاهره ، وسرُّه خيرٌ من علانيته .
لقد أكرمني الله تعالى بأن
جعلني في فترة دراستي بالكويت أحد طلاب الشيخ رحمه الله ، فما سمعته ذكر أحداً
بسوء ولو لمرةٍ واحدة ، بعيدٌ كلَّ البعد عن الطعن بالآخرين والتصنيف والهمز واللمز بإخوانه ، يعفو ويصفح ، ويغفر
الزلَّة ، ولا يبحث عن العثرة ، وهو ما يبين لنا سلامة صدر الشيخ ، ونقاء قلبه
وصفائه وطُهره، وسُمُوِّ نفسه ، وكراهتها سفاسف الأمور ، ومحبتها لمعاليها
ومراقيها .
يخاطب طلابه وكأنهم أبناؤه
وإخوانه ، ليس في عباراته لهم سوى الود والإخاء وخالص الدعاء لهم بالتوفيق والسداد
والحفظ والرعاية ، ولا أذكر أن أحداً من الطلاب قد اشتكى يوماً ظلمه له في الدرجات
أو تقصُّده إياه بالإيذاء بل على النقيض من ذلك ، فقد كان يُكرم طلبته في الدرجات
، ويعطيهم حقهم وزيادة على ذلك ؛ إحساناً له منهم ، وبُعداً عن ظلمهم ، وما حظي به
من مكانةٍ في المجتمع والدولة لم يجعله يتعالى على أحدٍ من طلابه فضلاً عن أصحابه وزملائه
، وما أرسلت له رسالة نصية على هاتفه إلا وردَّ بأحسن منها رحمه الله ، وخصَّني
بسببها بالدعاء ، فنِعْمَ الأستاذ كان ونِعْمَ المُربي .
وقد كان رحمه الله يولي
الطلبة الوافدين عنايةً خاصةً ؛ محبةً له منهم ، وإعانةً لهم على تحقيق ما من أجله
تركوا أهليهم وتغرَّبوا عن أوطانهم ، وكان يوصي زملاءه الأساتذة بالكلية بهم خيراً
، وقد كلَّمته ذات مرةٍ بأن يعقد لطلبة مملكة
البحرين الدارسين بجامعة الكويت دورة علمية خاصة بهم في " العقيدة الإسلامية
وتاريخها " فما تردد لحظةً واحدةً في الموافقة على طلبي ، وتم بحمد الله الاتفاق
على الموعد وتمت الدورة بالمسجد الكبير .
كان رحمه الله يقرر معتقد
أهل السنة والجماعة بأدلةٍ ثابتة ، وأصولٍ رصينة ، وأجوبةٍ بديعة ، يدعو إلى الله على
بصيرة وعلمٍ وهدى ورشاد ، قد أوتي حكمةً في الدعوة جعلته مقدماً على كثيرٍ من
أقرانه ، فالوسطية والاعتدال منهجه ، والتوازن في الطرح ديدنه ، والرفق واللين
سلوكه ، همُّه في هذه الحياة وشغله الشاغل نشر دين الله جلَّ وعلا ، فهو ما بين
محاضرةٍ هنا أو دورةٍ علميةٍ هناك ، يعكف على التحقيق والتأليف الساعات الطوال ،
فلا يكل ولا يمل ، ومؤلفاته وتحقيقاته شاهدةٌ على مدى جدِّه واجتهاده وهمَّته
العالية ، رجلٌ قد صدق الله فصدقه الله .
قد أحبَّ الشيخ رحمه الله وطنَه
فأحبَّهُ وطنُه ، ولطالما صدع من منبره بالحفاظ على الوطن ومكتسباته ، والتمسك
بأمنه واستقراره ، وحذَّر من خلاله من الفرقة والاختلاف الذي يهدد كيان المجتمعات
والأوطان ، وكانت الدعوة إلى اجتماع الكلمة والتآلف والتآخي والتصافي ووحدة الصف
حاضرةً في خطبه تغمده الله بواسع رحمته .
إن كل ما سبق ذكره مما
امتاز به فضيلة الشيخ وليد رحمة الله عليه ، وهو ما جعل ولاة الأمر بالكويت يثقون
به وبسلامة فكره ومنهجه ، مما جعلهم يسندون إليه العديد من المهام المتعلقة
بالدعوة بالكويت ، والتي من ضمنها : إمامته وخطابته بالمسجد الكبير ، وعضويته
بلجنة إعداد الخطبة النموذجية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، وعضويته كذلك
باللجنة العليا لجائزة الكويت الدولية لحفظ القرآن الكريم وقراءاته وتجويد تلاوته
، ولجنة اختبارات الأئمة والمؤذنين، ولجنة الوظائف الدينية ، والهيئة الشرعية
لبيت الزكاة ، ولجنة تأهيل أصحاب الفكر المتطرِّف بالسجن المركزي ، هذا بالإضافة
إلى عمله كأستاذٍ بقسم العقيدة والدعوة وتوليه منصب العميد المساعد لشؤون الأبحاث
والاستشارات والتدريب بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت .. كل ذلك
يدل على مدى الثقة التي كان يحظى بها الشيخ وليد رحمه الله .
ولا عجب أن يتأثر رأس
الدولة بالكويت صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح – حفظه الله -
بوفاته ، فالكويت لم تفقد شخصاً عادياً وإنما فقدت رمزاً من رموزها، رمزٌ له أثره
الكبير والبيِّن في الدولة ، وله جهوده البارزة في الدعوة إلى الحفاظ على أمن
البلاد والسعي إلى إصلاح العباد .
رحم الله الشيخ د.وليد العلي
وأسكنه فسيح جناته وبلغه مراتب الشهداء وربط على قلب أهله وطلابه ومحبيه ، وإن
العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون ، ولا نقول إلا
ما يُرضي ربنا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرنا في مصيبتنا ، واخلفنا
خيراً منها { وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ
أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } .