الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

الوشاية بقلم : د.أحمد العازمي

يُقال في اللغة: وشى به إلى السلطان ويشي ووِشايةً أي نمَّ عليه وسعى به، فالوشايةُ تحريضٌ لمنع حق من الوصول إلى صاحبه أو للإضرار بشخص ما، وقد تكون بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، فلدينا هنا ثلاثة أطراف في الوشاية: الواشي ومن وُشي به وصاحب السلطة الذي يملك الولاية والقرار والنفوذ.

وهذه الوشاية قد تكون في مجال الأسرة أو العمل أو المجتمع أو الدعوة أو السياسة حيث المكائد والدسائس والمخططات والمؤامرات سواء على مستوى الأفراد أو الأحزاب والجماعات أو الدول والمنظمات .

في غالب الأمر يكون الواشي قريباً من صاحب الولاية أو السلطة أو المنصب، ويسعى لتنحية منافسيه بشتى الطرق والوسائل، وتراه يجتهد ويفكر ويدبر للفتك بخصومه ومخالفيه أو من يراه ويظن بأنه مهدداً لمكانته ومنزلته عند ذوي الولاية والسلطان والمنصب والنفوذ، فيسعى لإثارة صاحب الولاية والسلطة والنفوذ على فلانٍ من الناس ممن عُرف بالفضل والمكانة والمزِيَّةِ على غيره، لابساً في مكره وخديعته لباس الحمل الوديع وفي حقيقته الوحش الكاسر، مُظهراً النصيحة والشفقة، ومُضمراً الشر والخُبث، مُستعدياً بوشايته من كان قريباً من صاحب الولاية والسلطة والنفوذ، ومثيراً للفتنة بينهما، وفاتحاً باب شر على من يزعم النصيحة له، وقديماً قيل:

ومن يُطعِ الواشين لا يتركوا له .. صديقاً وإن كان الحبيب المقرَّبا

وعلى مر التاريخ لم يمرَّ زمانٌ ولم يخلُ مكانٌ من أصحاب الوِشايات، ممن غرتهم الحياة الدنيا، وعضوا عليها بالنواجذ، وكانوا مثالاً لمن باع أخراه بدنياه، والعجيب في هذا الأمر ليس في وجود أمثال هؤلاء في كل زمان ومكان، وإنما العجيب في الأمر أن بعضاً من هؤلاء ممن يُظهر التديُّن والصلاح، ومن المفروض أن يكونوا من أنقى الناس قلوباً، وأصفاهم سريرةً، وأكثرهم تقى وزهداً وورعاً، وكفاً عن أذى الآخرين! فهم الذين يتلون قول الله تبارك وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخواناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَٰبِلِينَ}، وقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقوله جل وعلا: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وقوله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا}، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وهم الذين يروون قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتَّات)، وقوله صلوات ربي وسلامه عليه: (مثَلُ المؤمنين في تَوادّهِم وتَراحُمِهِم وتَعاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى)!

إن من نراهم اليوم يسعون للإضرار بإخوانهم ما هم إلا أحفاد أولئك الذين قاموا بالوِشاية بعلمائنا وفقهائنا ودعاتنا من قبل عند ذوي السلطان وأصحاب القرار والنفوذ، فقد سبق وأن وُشي كذباً وزوراً على الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام مالك بن أنس والإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والإمام البويطي وشيخ الإسلام ابن تيمية وسلطان العلماء العز بن عبدالسلام وغيرهم من الأئمة الأعلام الذين لم تزدهم الوشايةُ بهم إلا رفعةً وسمواً وعلواً بصبرهم ويقينهم بالله جل وعلا، وصدق فيهم قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، وكانوا بذلك رموزاً في الثبات على الدين والقيم والمبادئ، وأما أولئك ممن وشوا بهم فلا يذكرهم التاريخ إلا بالنقائص والمعايب والسوء.

لقد اتهموا أبو حنيفة ورموه بالشنائع، وزعموا بأنه يخالف أوامر الخليفة برفضه تولي القضاء، مما يعني أنه عصى ولي الأمر بل ولا يرى طاعةً له، وأنه من الخارجين على الإمام - كذباً وزوراً وبهتاناً - وحبسوه وضربوه على ذلك، مع أنَّ رفض تولي القضاء لا يعني بالضرورة مخالفة ولي الأمر ولا الخروج عليه ولا أياً من تلك الأقاويل التي زعموها وافتروها على الإمام ووشوا بها، ولكنها الوشاية في ثوبها الممزق وصورتها البشعة.

وجلدوا الإمام مالك بن أنس في فتواه بعدم وقوع طلاق المكره، حيث كانوا يأخذون البيعة من الناس بأيمان الطلاق، فكان يفتي بعدم وقوع طلاق المكره، وزعموا بذلك أنه يقول بجواز الخروج على الخليفة ويدعو إلى ذلك حتى جُلد على إثر هذا الأمر وهو إمام دار الهجرة ونجم العلماء!

وقد وُشي بالإمام الشافعي عند الخليفة هارون الرشيد وسُجن، وزُعم بأنه يُناصر معارضي الخليفة ويجوّز الخروج عليه -كذباً وزوراً-، وعُرض على السيف وكاد الخليفة أن يضرب عنقه لولا لطف الله وتسخيره الإمام محمد بن الحسن الشيباني للإمام الشافعي في مجلس الرشيد حيث انتصر له ورد عنه ما ادُّعي عليه كذباً وزوراً، وشهد له بالعلم والفضل.

ولا يخفى على أحدٍ أيضاً ما فُعل بالإمام أحمد في فتنة القول بخلق القرآن التي ابتدعها المعتزلة وامتحنوا الناس عليها، حيث سُجن وجُلد ومُنع من التدريس، كل ذلك بسبب وشايات لذوي السلطان والنفوذ والقرار التي لا يزال البعض يستمتع بممارستها!

كل تلك الوشايات ذهبت وذهب أصحابها، وقد سقطوا من أعين الناس، وأصبحوا جزءاً من الماضي، ولا يذكرهم التاريخ إلا بسوء فِعلتهم، وبات أولئك الأئمة العِظام أعلاماً للأمة، ومنارات للهدى والصلاح والرشاد إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها، فهم أتباع الأنبياء والرسل بحق، وقد تحملوا الأمانة والمسؤولية في تعليم الناس والتبليغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فنالهم بسبب ذلك بعضاً مما نال الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من قبلهم {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

أين حال أولئك الوُشاة من حال أولئك الأئمة الأعلام والدعاة الفضلاء ممن وُشي بهم، فقد كان الإمام أبو حنيفة النعمان -رحمه الله- من أكثر الناس صلاةً، وكان يحيي الليل صلاةً ودعاءً وتضرُّعاً، وكان أبعد ما يكون عن المحرمات، وكان مكتفياً في الجانب المالي، حيث كان تاجراً ولم يمد يديه لأعطيات السلاطين وأصحاب المناصب والنفوذ، وكان يتعاهد طلابه وتلاميذه ويساعد من كان محتاجاً منهم، وكان الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- شغله الشاغل في بيته قراءة القرآن الكريم، وكان يطيل الركوع والسجود في صلاته بالليل، وكانت أكثر عباداته في السر، حيث لا يراه أحد، وإذا رأيته رأيت الخشوع والوقار والهيبة والخشية من الله جل وعلا في وجهه، وكان الإمام الشافعي -رحمه الله- يجزئ الليل أثلاثاً، ثلثاً يكتب، وثلثاً يصلي، وثلثاً ينام، وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يختم القرآن كل سبعة أيام، وكان يُكثر الصيام وهو في السجن، وكان عفيفاً، رافضاً للأعطيات، وكانت مجالسه عامرةً بذكر الله والدار الآخرة، وأمثال هذه الأحوال لا يمكن أن يكون عليها أولئك الوشاة لا من قبل ولا من بعد، فحُقَّ لأولئك الأعلام أن يرفع الله ذكرهم في العالمين، وحُقَّ لأولئك الوشاة أن يمحو الله ذكرهم، ويُخفض منازلهم بين الناس، فهم الصغار مهما علت مناصبهم، ومهما كثرت أموالهم، ومهما وضعوا لأنفسهم من الألقاب.

إن بعضاً من أولئك الوشاة قد دارت عليهم الدوائر في الدنيا، وما كانوا لضعف إيمانهم ويقينهم يتصورون بأن الدوائر ستدور عليهم في يومٍ من الأيام، ولكنها سنة الله في خلقه {وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ} ، وقد انتقم الله جل وعلا منهم في الدنيا، وما ينتظر من لم يتب منهم ومن لم يَغفر لهم ويعفوا عنهم من وشوا بهم وأوقعوا بهم الضرر أعظم عند الله، حتى قال الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- في إحدى الروايات المروية في محنته عندما قيل له: إن جعفر بن سليمان قد ضرب فلاناً وحلق رأسه ولحيته وأقامه للناس، فقال مالك: وما تريدون به، أترون حظنا مما نزل به النظر إليه والشماتة به؟! إنا نؤمّل من ثواب الله ما هو أعظم من ذلك، ونؤمّل له من عذاب الله ما هو أشدُّ من ذلك.

فيا ويل كل أولئك الوشاة من الله وعقابه وعذابه، فهم الهمازون المشاؤون بنميم، مشعلوا الفتن ووقود النيران في الأرض، فكم خاضوا في الأعراض، واتهموا النيات، وكشفوا العورات، وانتقصوا أهل العلم والعقل والحكمة والمروءات، وكم أوغروا من صدور، وزرعوا من أحقاد، وفرَّقوا بين الأحباب، وكم قطَّعوا من أواصر، وبثوا من شرور في المجتمعات؟!

ولسان حال بعض من ابتُلي بالوشاية به من قبل بعض الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو التيارات أو غيرهم: إنا والله نؤمّل من ثواب الله ما يرفع به درجاتنا عنده في الآخرة ونؤمّل لكم من عذاب الله ما يُذيقكم به بأسه ويقيم به عدله {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَٰطِلَ ۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ}.