في خضم هذه
الحياة وتعقيداتها وازدحامها، وكثرة مغرياتها وملهياتها، وانشغال الكثير من الناس
بمادياتها قلَّما تسمع أو تُدرك أحداً من أولئك الذين نقرأ عنهم في كتب السِّيَرِ
والأعلام والتراجم من العلماء العاملين والدعاة المربين الذين لهم عنايةٌ بتطبيق الإسلام
منهجاً وعقيدةً وخلقاً وسلوكاً في واقع حياتهم، ويغرسون في نفوس المتعلمين بين أيديهم محبة الله ورسوله صلى الله عليه
وآله وسلم، والسير على منهج الله جل وعلا، وتطبيق تعاليم الإسلام وأحكامه
وتشريعاته في واقع الحياة، بأسلوبٍ فيه حكمة ومحبة الخير للآخرين، امتثالاً لقول
الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
[النحل: 125].
لم يعلمِ العالمون
ما فقدوا .. منه، ولا الأقربون ما عدِموا
ما فقدُ فردٍ من
الأيامِ كمن .. إن مات ماتت لفقدهِ أممُ
لقد كان الشيخ
الفاضل والداعية المربي يوسف بن عبدالرحمن فقيه -رحمه الله- من أولئك الذين أتحدث
عنهم، من أولئك الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، وكان
مثالاً وقدوةً في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى في مملكة البحرين -نحسبه كذلك
والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً-، وكان متبعاً للمنهج الوسطي المعتدل في
الدعوة، بعيداً عن الغلو والتشدد، والطعن والهمز واللمز بإخوانه الدعاة وطلبة
العلم، وقد حرص على أن يكون حاضراً في ميدان الدعوة رغم كل ما لقيه فيها من مشاق
وصعاب، وكان له حضوره الدعوي في العديد من المساجد والمدارس، وكان يحث إخوانه من
طلبة العلم والدعاة على الجد والاجتهاد في الدعوة إلى الله جل وعلا.
وقد نسقت معه في
رمضان إحدى السنوات الماضية درساً أسبوعياً بعنوان: "بناء الأسرة المسلمة"،
وذلك بعد العصر في مسجد مريم بنت إبراهيم لوري بقلالي، وبعد عدة دروس إذ به يتصل
بي، ويشكرني على ترتيبي لهذا الدرس الأسبوعي، وقال لي: (إني فرحٌ جداً بتقديمي
لهذا الدرس)، فسألته حينها: لمَ هذا الشكر وكل هذا الفرح؟ وقلت له: بأننا نحن من
يشكره على تقديمه لهذا الدرس، ومساهمته معنا في إنجاح هذا البرنامج الرمضاني لهذه
السنة، فقال لي: (لقد تفاجأت بوجود بعض النساء في الدرس..)، فأخبرته بأن هناك مصلى
للنساء ونفتحه لهن للصلاة ولحضور الدروس في المسجد، فقال لي: (بأنه قد علم بذلك
عندما خرج من المسجد في يومٍ من الأيام، وكانت إحدى النساء تنتظره لتشكره على هذا الدرس،
وبأنها قد بدأت بتطبيق بعض ما كان يذكره في دروسه، وأخذت تستشيره في بعض الأمور)،
فلذلك كان فرحاً، بأن هناك استجابة وأثر لهذه الدروس، مما كان يعطيه دافعاً أكبر
للالتزام بهذا الدرس الأسبوعي.
أحرص على قدر
الإمكان عندما أقوم بالترتيب والتنسيق لبعض المحاضرات والدروس أن يكون المقدم من
أفضل الدعاة الذين يقدمون موضوع المحاضرة والدرس، وكان الشيخ يوسف فقيه هو الذي
اخترته في عام 2017م لتقديم محاضرة "اقتضاء العلم العمل" التي كانت
بمسجد حصة العماري بالبسيتين؛ وذلك لما رأيته فيه من حرص على تطبيق ما في كتاب
الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
كثيراً ما كان
الشيخ يوسف فقيه -رحمه الله- يؤكد على سلامة الصدور، والحذر من الغيبة والنميمة
وغيرها من أمراض القلوب والألسنة التي
ابتُلي بها حتى بعض طلبة العلم -للأسف الشديد- من حيث يشعرون أو لا يشعرون، يعلمون
أو لا يعلمون، قد امتلأ قلبه حباً للآخرين، لا يغدر ولا يخون، ولا يتآمر ضد
إخوانه الدعاة وطلبة العلم، بل يحب الخير للجميع، ولا يبني الأحكام المسبقة ضد
إخوانه، ومنهجه تجاه الآخرين التبين والتثبت والنصيحة، والمحافظة على العلاقة
الطيبة والمودة والمحبة التي جعلها الله تبارك وتعالى بين المؤمنين.
فلا والله ما
حاولتَ غدراً .. فكلُّ الناسِ يغدرُ ما خلاكا
كان يعلم -رحمه
الله- عن عددٍ من أولئك الذين كانوا يطعنون به ويغتابونه بل ويتآمرون عليه من أجل
التضييق عليه في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومع ذلك كان يبتسم ويضحك حينما
تصله بعض الأخبار في شأن ذلك، وكان يدعو الله لهم بالهداية، ويفوض أمره إلى الله في أن يكف شرورهم عنه، وشعاره في
هذا النهج قول الله جل وعلا: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
[التوبة: 51].
الرفق واللين
كان السمة الظاهرة والبارزة في دعوة الشيخ يوسف فقيه -رحمه الله-، تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما
كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيءٍ إلا شانه)، ولا زلت أذكر ذلك الطالب
الذي كان خجلاً من نصيحة الشيخ له بكل رفق ولين بترك التدخين، وقد عاهد الشيخ في
حينها بأن يترك ذلك.
كان الشيخ يوسف
-رحمه الله- قريباً من فئة الشباب، يعرف
مداخلهم، وكيف يتعامل معهم، ويراعي في خطابه لهم المرحلة العمرية التي هم فيها، وكان
ينصحهم بكل هدوء، وينظر في شؤونهم، ويستمع إليهم، ويناقشهم، ويتحاور معهم، ويحاول
معالجة مشكلاتهم على حسب ما يكون في وسعه وقدرته، قد أحاط بحُسن خلقه ونُبله وتواضعه
وتسامحه وبشاشته كل من تعامل معه واقترب منه.
كثيراً ما كنت
أستشير الشيخ يوسف فقيه، وأتناقش معه حول بعض الموضوعات الدعوية، وأحدثه عما يجري في الساحة الدعوية إلى أن أصيب بما
أصيب به من مرض فكنت أستحيي أن أشغل باله وتفكيره بمثل هذه الموضوعات المقلقة، مع
علمي بأنه كان يحب أن يستمع إلي، لا سيما وأن هدفنا واحد، وهو الدعوة إلى الله
تبارك وتعالى والارتقاء بها، ومحاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه فيها، وكان يقول لي بعد
مرضه: (اتصل بي في أي وقت تشاء)، فأقول له: بأني لا أريد أن أُثقل عليه بالاتصال
لا سيما وأنه لا يستطيع الرد على الهاتف في بعض الأحيان، فكان يقول لي: (لا عليك
اتصل بي في أي وقت، فأنا أفرح حينما تتصل بي)، فأي قلبٍ طيبٍ نقي ذلك الذي كان
يحمله الشيخ يوسف فقيه؟!
فيا من غاب عني
وهو روحي .. وكيف أطيقُ من روحي انفكاكا
وما فارقتني
طوعاً ولكن .. دهاك من المنية ما دهاكا
يعزُّ عليَّ حين
أُديرُ عيني .. أُفتِّشُ في مكانك لا أراكا
ختمتُ على ودادك
في ضميري .. وليس يزال مختوماً هناكا
عرفت الشيخ يوسف
فقيه -رحمه الله- منذ أن كنت طالباً في المرحلة الإعدادية -ولم تنقطع صلتي به منذ
ذلك الوقت- ثم كنت زميلاً له في العمل لمدة عامٍ كامل في مدرسة المحرق الثانوية للبنين،
حيث كان رئيساً لقسم التربية الإسلامية فيها قبل أن ينتقل منها ويصبح بعد ذلك
مديراً مساعداً، فكان مثالاً أيضاً وقدوةً في حُسن العمل والإدارة، وكان مهتماً
بعمله، حريصاً على تطوير القسم، والارتقاء بمستوى أداء المعلمين فيه، يعمل بروح
الفريق الواحد، متعاون إلى أبعد حد منكم أن تتصوره، يتشاور مع الجميع في القرارات
المتعلقة بالقسم، لديه مرونة في العمل، حريص على أن لا يظلم أحداً من
المعلمين، وقد ساهم بشكل واضح في زيادة الأنشطة الطلابية المقدمة من جانب القسم،
وكان يؤكد علينا جميعاً بأن عملنا أمانةٌ في أعناقنا، وأنه يجب علينا أن نؤدي هذه
الأمانة كما أمرنا الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
كنت حريصاً في
تلك السنة التي درَّست فيها مع الشيخ يوسف أن أجعل من ضمن التقارير المطلوبة على
الطلبة تقريراً عن زيارةٍ ميدانية لمركز الشيخ عيسى بن علي آل خليفة لتعليم القرآن
الكريم التابع لوزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، والذي يقوم على رئاسته
الشيخ يوسف؛ وذلك لما أعلمه من قوة هذا المركز ونشاطه وحُسن تنظيمه وتعدد مسارات
الدراسة القرآنية فيه، مما سيكون له الأثر البالغ في نفوس الطلبة أنفسهم حينما
يرون ذلك العدد الكبير من الطلبة الذين يجلسون في مختلف الحلقات القرآنية في
المسجد؛ ليتعلموا كتاب الله سبحانه وتعالى، فوافق الشيخ من فوره على هذه الزيارة
وأن يكون هذا التقرير الميداني من ضمن التقارير المطلوبة على الطلبة الذين أقوم
بتدريسهم.
ابتُلي الشيخ
-رحمه الله- بالمرض منذ عدة سنوات، وكان آيةً في الصبر والاحتساب رغم شدة المرض
عليه، وكنت عندما أزوره بين الفينة والأخرى أو أكلمه بالهاتف
أشعر بذلك إلا أنه دائماً ما كان يحاول أن يطمئن الآخرين على صحته لئلاً يقلقهم
عليه.
وقد حدَّثته
مرةً بالهاتف بعد جائحة كورونا بقليل للسلام عليه والاطمئنان على صحته، وأبديت
رغبتي بزيارته وأعلمته بأن ما يمنعني من ذلك هو ما علمته من نصح الأطباء له بالابتعاد
عن مخالطة الناس؛ وذلك لضعف المناعة عنده، فبادرني بالترحيب بالزيارة، وقال لي: (لا
أستطيع أن أردك أنت تحديداً، ولكن أرجو أن لا تخبر أحداً بأنك قد زرتني؛ لئلا
يتوافد الناس عليَّ)، وأخبرني أيضاً برغبته برؤيتي، فقلت له: (إذا كان هناك خطورة على
صحتك فلا مشكلة، فلندع الزيارة لوقتٍ آخر)، ولكنه أصرَّ على أن أذهب للسلام عليه،
فقلت له: (لكن حفاظاً على صحتك سيكون اللقاء عند الباب، وبشكل متباعد، ولن نطيل)، فوافق،
وذهبت إليه، وفي هذا اللقاء أعطاني الشيخ رسالة الماجستير التي كتبها في فترة
دراسته -وكنت قد طلبتها منه مسبقاً- وطلب مني اختصارها، والعمل على إخراجها حتى
يستفيد منها الناس، وكانت بعنوان: "أحكام التشبه في الشريعة الإسلامية".
كان الشيخ يوسف فقيه
-رحمه الله- لا يخاف في الله لومة لائم، فكان يقول الحق الذي يدين الله تبارك
وتعالى به، ويأمر بالمعروف، وينهى عن
المنكر، غيوراً على دينه، محباً لبني مجتمعه وأمته، ممتثلاً في ذلك قول الله جل
وعلا: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[آل عمران: 104].
قضى الحياةَ
ونصرُ الحقِّ ديدنهُ .. لا ينثني رهباً عنهُ ولا رغبا
سارت جنازتهُ
والعلمُ في جزع .. والفضل يندبُهُ في ضمنِ من ندبا
عَلِمَ الشيخ
يوسف -رحمه الله- حقيقة الدنيا وما فيها، وأدرك سر وجوده، والغاية من خلقه، فحرص على تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، والعمل للدار
الآخرة، فكان مثالاً للعبد المؤمن الصالح التقي.
لقد توفي الشيخ
يوسف فقيه -رحمه الله- بعدما ترك أثره الواضح والبيِّن في نفوس محبيه من عموم
الناس، وكان آيةً من آيات الله في الدعوة والصبر والاحتساب،
فرحم الله الشيخ بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا وإياه في مستقر رحمته،
ودار كرامته، مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً.
علوٌّ في
الحياةِ وفي المماتِ .. لحقٌّ تلك إحدى المعجزاتِ