كان رجاء بن حيوة رحمه
الله وزيراً ومستشاراً عند عدد من خلفاء بني أمية ، وكان كبير المنزلة عندهم ورفيع
الشأن حتى تم إبعاده والاستغناء عن خدماته بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ؛
وذلك أنه كان سبباً في تولية عمر الخلافة من بعد سليمان بن عبدالملك وتقديمه على
غيره من بني أمية إضافة إلى جملة من أعماله ومشوراته التي لم تكن محل الرضى من قبل
العديد من أمراء بني أمية الظلمة .
لم يضر رجاء بن حيوة
إبعاده وإقصاؤه عن مواطن صنع القرار ؛ وذلك أنه كان أحد العلماء العاملين بعلمهم
الذين لم يزدهم قربهم من الخلفاء إلا رفعةً ومنزلةً ومحبةً في قلوب الناس ، ولهذا
لما تم إعفاؤه من منصبه عاد ليكون مع بقية الناس الذين كانوا محبين له عالماً
ووزيراً ، وأقبل على التعليم والتدريس ، ولم ينشغل أبداً في الانتقام لنفسه ، ولا
بالمكائد والمؤامرات ضد السلطة الحاكمة ، ولم يؤسس حزباً ولا جماعةً يكون همُّها
وهدفها إسقاط الدولة أو إفشالها ، وهذا هو الفرق بين الوزير الصادق الأمين الذي
ينتمي لهذه الأمة ، ويعمل لمصلحتها ، ولما فيه رفعة شأنها ، وبين وزيرٍ خائنٍ
للأمانة ومضيعٍ لها ، ولاؤه لدولٍ أجنبية تسعى لتفريق هذه الأمة وإضعافها .
إن محبة الناس لرجاء بن
حيوة وشعبيته وما وضع الله له من القبول بينهم جعلت من قام بإبعاده يخشى منه لا
سيما أنهم قد رأوا من حكمته وحنكته السياسية ما أبهرهم به أثناء توليه الوزارة ،
وقد اجتمعت تلك الخشية منه مع عداوتهم له وحقدهم عليه ؛ وذلك أنه رحمه الله كان
واقفاً مع الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه لله في رد المظالم إلى أهلها ، وانتزاع
ما في أيدي أولئك الأمراء الظلمة مما أخذوه واستولوا عليه بغير وجه حق ، فجاء الوقت
للانتقام بوجهة نظرهم .
عيَّن الخليفة هشام بن عبد
الملك شخصاً خاصاً يعمل عمل المخابرات بمراقبة الوزير السابق رجاء بن حيوة، فيحضر
مجالسه ، ويكتب تقاريره ، ومن ثم يرفعها إليه ، فأدرك ذلك الشخص المهمة الموكلة
إليه ، وبدأ العمل بما وكِّل به ، وكان يحاول الإيقاع برجاء ومصادمته مع الخليفة
هشام ؛ حتى يرفع تقريراً يرضى به عنه ، ويرتقي عن طريقه في عمله على كتف رجاء إلا
أن رجاء كان واعياً لتلك المكائد التي تُكاد له ، وكان أشد ذكاءً من ذلك الذي تم
تعيينه كعنصرٍ " مخابراتي " عليه ، يعمل على مراقبته، ورفع التقارير
عنه ليل نهار ، فقلب الطاولة عليه ، وأبان عن ضعفه ، وأوقعه في شرِّ شباكه ومكائده
في حادثةٍ سجلها التاريخ.
كان رجاء جالساً في أحد
المجالس التي يتذاكر فيها مع إخوانه ومحبيه وطلابه العلم ، ويذكِّر فيها بالله
تعالى، فتذاكروا شكر نعم المولى جلَّ وعلا ، وكان مما قال : ( ما أحدٌ يقوم بشكر
نعمة ) يريد أن يبين لهم بذلك أنه مهما حاولوا شكر نعم الله تعالى فإنهم لن يقدروا
على إيفاء ذلك والقيام به حق القيام ؛ وذلك أن نعمه سبحانه كثيرةٌ لا تُحصى ، فما
كان من ذلك الرجل المعيَّن لمراقبة رجاء – وقد كان على رأسه كساء – إلا أن يرفع
الكساء من على رأسه ويقول : (ولا أمير المؤمنين ؟) ، فعجب من كان حاضراً المجلس
من هذا الرجل ومن مقولته ، فقال له رجاء : ( وما ذِكْرُ أمير المؤمنين هنا ؟!
وإنما هو رجلٌ من الناس ) ، يريد أن يقول له : ما مقصدك من هذا السؤال ؟! وما
علاقة الخليفة بما نتذاكره ونتدارسه ؟! وعلامَ إقحام ذكره في المجلس ؟! ، ومكث ذلك
الرجل برهةً حتى يغفل الناس عنه ثم خرج ، فالتفت رجاء نحوه فلم يره ، فقال : (
أُتيتُم من صاحب الكساء ، فإن دُعيتم فاستُحلفتُم فاحلفوا ) ، علم رحمه الله أن
ذلك الرجل ذهب ليرفع تقريراً إلى الخليفة يتهمه فيه بانتقاص الخليفة والإساءة إليه
!
وبينما هم جلوسٌ إذ جاء
أحد حرس الخلافة إلى رجاء ؛ ليبلغه بأن الخليفة قد أمر بإحضاره ، وأن عليه مرافقته
إلى مجلس الخليفة ، فذهب رجاء مع الحارس إلى الخليفة هشام بن عبدالملك ودخل عليه ،
فقال له هشام : ( هيه يا رجاء ، يُذكر أمير المؤمنين فلا تحتجُّ له ؟! ) ، فسأله
رجاء : (وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟)، فذكر له هشام ما حدث في المجلس ، فقال
رجاء : ( لم يكن ذلك ) ، فاستغرب هشام من إنكار رجاء والتقرير المرفوع إليه يُثبت
خلاف ذلك مع علم ويقين هشام بأن رجاء لا يمكن أن يكذب – وقد كان إنكاره رحمه الله
لتهمة الانتقاص من شأن الخليفة والإساءة إليه - ، فاستحلفه وقال : ( آ الله ؟ )
قال : ( آ الله ) ، فما كان من هشام إلا أن يستشيط غضباً ، ويأمر بذلك الرجل
الساعي أن يُضرب سبعين سوطاً ، يقول رجاء : ( فخرجت وهو متلوثٌ بدمه ) .
إنكار رجاء بن حيوة لما
طرحه عليه الخليفة وعدم إقراره به أثار استغراب ذلك الرجل " المخابراتي
" صاحب الكساء ، فقال لرجاء : ( هذا وأنت رجاء بن حيوة ! ) فقال له : ( سبعين
سوطاً في ظهرك خيرٌ من دمِ مؤمن ) ، وكان رجاء بعد ذلك إذا جلس في مجلسٍ يتلفَّت
ويقول : ( احذروا صاحب الكساء ) .