كان رحمه الله كبير
المنزلة وعظيم الشأن عند عدد من خلفاء بني أمية كعبدالملك بن مروان ، وسليمان بن
عبدالملك ، وعمر بن عبدالعزيز ، وقد أجرى الله تعالى على يديه – كما ذكر الإمام
الذهبي في سيرته – الخيرات ؛ وذلك أنه كان من أولئك الوزراء المخلصين والمستشارين
المؤتمنين الذين إذا نسي الخليفة ذكَّروه ، وإذا ذكر أعانوه ، وكان ينظر إلى
الأمور نظر العالم البصير الذي يدرك العواقب والمآلات .
لم يكن قربه من الخلفاء من
أجل حُطام الدنيا ومتاعها ، ولا لنيل المكاسب الشخصية الآنية ، وإنما كان لإحقاق
الحق، ورفع المظالم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبذل النصح ،
والمشورة الصادقة .. فلا هو ذاك الوزير الذي يسعى لقضاء حوائجه ، ولا ذاك المستشار
الذي يقدم أمره الخاص على أمر العامة .
لم تغلبه نفسه طوال خدمته
مع الخلفاء في التعدي على بيت مال المسلمين ، ولا أخذ تلك الرشاوى التي يقدمها من يقدمها من أجل ذكرهم عند الخلفاء ،
ولم يُعلم عنه أنه استغلَّ منصبه مرةً من المرات في تقديم من لا يستحق وإعطائه ما
لا يستحق ، وكيف يفعل ذلك من كانت المصلحة العليا للدولة ولعموم المسلمين هي همُّه
وشغله الشاغل في ليله ونهاره ؟!
مشوراته كلها كانت فيما به
مصلحة المسلمين ، ولم يكن كأولئك الوزراء والمستشارين الذين يقدمون المشورات بناءً
على ما يُحب ويرغب الخليفة ، وإنما كانت الغاية والهدف أسمى من ذلك بكثير ، وليس
ذلك بغريب عندما يوسد الأمر إلى أهله ، ويكون صاحب الكفاءة الأمين هو الوزير
والمستشار .
ذاك الذي أتحدث عنه هو
العالم الفقيه الثقة الإمام القدوة والوزير العادل والمستشار المؤتمن رجاء بن حيوة
الذي كان يعلم علم اليقين أن الدنيا وما فيها من مناصب كلها زائلة ، وأن الدار
الآخرة وما فيها هي الباقية ، فكيف يقدم العاقل ما هو زائل على ما هو باقٍ ؟!
كان رحمه الله يوماً عند الخليفة
عبدالملك بن مروان ، وقد ذُكر عنده شخص بسوء ، فأخذ عبدالملك يهدد ويتوعد ويقول :
( واللـه لئن أمكنني اللـه منه لأفعلن به ولأصنعن ) ، فلما أمكنه اللـه منه همَّ
بإيقاع الأذى به ومعاقبته ، فما كان من الوزير العادل والمستشار المؤتمن رجاء بن حيوة
إلا أن يقوم ناصحاً ويقول: ( يا أمير المؤمنين قد صنع اللـه لك ما أحببت فاصنع ما
يحب اللـه من العفو ) ، فوقعت تلك النصيحة الصادقة في قلب عبدالملك ، وما كان
قراره إلا العفو عن ذلك الرجل والإحسان إليه .
وقد كانت من أعظم المشورات
التي أشار بها رجاء بن حيوة رحمه الله على الخليفة سليمان بن عبدالملك رحمه الله قبل
وفاته - وقد نفع الله بتلك المشورة الأمة أيما نفعٍ - هي مشورته عليه عندما مرض بتولية
عمر بن عبدالعزيز خليفةً على المسلمين من بعده عندما سأله سليمان : من ترى لهذا
الأمر ؟ فأجابه مذكراً له بالله تعالى : ( اتق الله ، فإنك قادمٌ على الله تعالى ،
وسائلك عن هذا الأمر وما صنعت فيه ) ثم أشار عليه بتولية عمر بعد حوارٍ دار بينهما
، فما كان من الخليفة المقبل على ربه إلا أن يتذكر وقوفه أمام الله جل وعلا ، وسؤاله
إياه عن هذه الأمة ، وعمَّن ولاها أمرها من بعده ، فيستجيب لتلك المشورة الصادقة ،
ويولي من بعده عمر بن عبدالعزيز خليفةً على المسلمين ، وقد كانت تلك المشورة سبباً
في إبعاد الوزير والمستشار رجاء بعد وفاة عمر بن عبدالعزيز ومعاداة العديد من
أمراء بني أمية له .
خرج رجاء بن حيوة من
الوزارة وخلع ثوب المستشار بعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله،
وتم إبعاده عن مواطن صنع القرار ، ولكنه لم يخرج إلا بسيرته الطيبة ، وأمانته
المعهودة ، ومبادئه الراسخة، وعمله النبيل ، ومشوراته الصادقة ، وتاريخه الناصع ،
فلم يشارك في قرارٍ جائرٍ تُظلم فيه الرعية، ولا في مشورةٍ يكون بها إعطاء من لا
يستحق ما لا يستحق ، وكان مثالاً للوزير العادل الصادق الأمين الذي يُفتخر بذكره
وبيان مناقبه وفضائله ومآثره ، وحُقَّ لأمير السرايا مسلمة بن عبدالملك أن يقول:
( برجاء بن حيوة وبأمثاله نُنصر ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق