إنَّ مما
امتنَّ الله تبارك وتعالى به على عباده المؤمنين أن جعل لهم أماكن معينة يعظم فيها
أجر وثواب العبادة ، ومن تلك
الأمكنة مسجدٌ حباه الله عز وجل بالمنزلة العالية والمكانة الرفيعة والفضائل
الجليلة ، ذلك المسجد الذي أسس من أول يومٍ على التقوى ، وعلى إفراد الله بالعبودية
، مسجدٌ له قُدسيته وطهره وصفاؤه ونقاؤه ، حلَّت فيه البركة وفاضت من حوله ، امتاز
عن سائر المساجد بأن كان القبلة الأولى ، ذلك المسجد الذي أتحدث عنه هو المسجد
الأقصى المبارك.
للمسجد الأقصى
المبارك أسماء متعددة -وتعدد
الأسماء كما يذكر العلماء يدل على عظيم المكانة والمنزلة لذلك المسمى- فيسمى
المسجد الأقصى ؛ وذلك لبعده عن المسجد الحرام ، وقال بعضهم : لأنه أبعد
المساجد التي تُزار ويبتغى في زيارتها الأجر والثواب من الله تعالى ، وقيل : لأنه
لما بُني لم يكن وراءه موضع عبادة ، وقيل : لبعده عن الأقذار والخبائث ، وكلها
معانٍ تصدق عليه ، ومن أسمائه كذلك بيت المقدس أي المكان المطهر من الذنوب
والخطايا ، واشتقاقه من القُدُس أي الطهارة والبركة ، وبيت الله المقدَّس أي
المطهَّر والمنزَّه .
تأتي مكانة
هذا المسجد عند المسلمين من عدة جهات ، من ضمنها : كونه أولى القبلتين ، فقد كان المسلمون يصلون تجاه بيت المقدس قبل أن يتم
تحويل القبلة إلى المسجد الحرام في قوله سبحانه : {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، حيث صلى المسلمون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً
، حتى نزلت الآية آنفة الذكر فوَلَّوا وجوههم قِبَلَ المسجد الحرام ، وليس أمر
تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام تقليلاً من شأنه أو إنقاصاً من
قيمته ومنزلته ومكانته ، لا ، وإنما هو الابتلاء والاختبار للمؤمنين في متابعة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومكانة المسجد الأقصى العظيمة باقيةٌ في
الإسلام ومحفوظة ، بدلالة ما ورد في شأنه من الفضائل، ويدلُّ على ذلك أيضاً أن رحلة
الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
، وعروجه صلوات ربي وسلامه عليه كان من المسجد الأقصى إلى السماء حيث تم
فرض الصلاة وهي أعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين في ذلك العروج وفي تلك
الليلة المباركة { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ، ولا
يخفى ما في ذلك كله من بيان وجه الارتباط الوثيق بين بيت المقدس والمسجد الحرام
، فمقدساتنا مرتبطةٌ بعضها ببعض ، وإن من يفرط اليوم بالمسجد الأقصى يفرط غداً
ببقية المقدسات الإسلامية .
{ سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ، يقول الإمام السيوطي رحمه الله :
( فلو لم يكن لبيت المقدس من الفضيلة غير هذه الآية لكانت كافيةً ، وبجميع
البركات وافية ؛ لأنه إذا بورك ما حوله فالبركة فيه مضاعفة .. ) .
بارك الله في
المسجد الأقصى وبارك ما حوله ؛ وما ذاك إلا
لعظم مكانته عند الله جل وعلا ، كيف لا وهو ثاني مسجد يوضع في الأرض لعبادة
الله تبارك وتعالى بعد المسجد الحرام ، حيث لم يكن بينهما إلا أربعين عاماً ،
فعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أيُّ مسجدٍ وُضع في الأرض أولاً
؟ قال : (المسجد الحرام) ، قلت : ثمَّ أي ؟ قال: ( المسجد الأقصى ) ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : ( أربعون سنة ، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلِّه
فإن الفضل فيه ) .
ومن جملة
فضائل المسجد الأقصى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعله أحد المساجد
الثلاثة التي لا تُشدُّ الرِحالُ إلا إليها للصلاة والعبادة ؛ وما ذاك إلا لعظيم فضله ومكانته في الإسلام ، قال صلى
الله عليه وآله وسلم : ( لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام
، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ) .
الصلاة في
المسجد الأقصى صلاةٌ فاضلة مباركة ويدل على ذلك إضافةّ لما ذُكر صلاة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم به عندما أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حيث دخل المسجد وصلى فيه ركعتين كما ورد في الصحيح ،
ومن هنا ترى حرص إخواننا في فلسطين على الصلاة في هذا المسجد المبارك الذي نسأل
الله جل وعلا أن يحرره من أيدي اليهود الغاصبين وأن يرزقنا فيه صلاةً قبل الممات .
يقول الصحابي
الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : تذاكرنا – ونحن عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم – أيهما أفضل : أمسجد رسول الله أم بيت المقدس ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم : ( صلاةٌ في مسجدي أفضل من أربع صلواتٍ فيه ، ولنِعْمَ المصلى
هو ، وليوشكنَّ أن يكون للرجل مثل شطنِ – أي حبل – فرسه من الأرض حيث يُرى منه بيت
المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً أو قال : خيرٌ له من الدنيا وما فيها ) .
في هذا الحديث
النبوي الشريف يبين لنا النبي عليه الصلاة والسلام فضيلة بيت المقدس وأنه من خير البقاع التي يُصلى فيها ( ولنعم المصلى
هو ) ، وأنه يأتي على الناس زمان يتمنى الواحد منهم أن يكون لديه موضع حبل
يطل من خلاله على بيت المقدس ؛ لما له من مكانةٍ عظيمةٍ في نفوسهم وقلوبهم ، وهو
ما يدل على تشوف المسلمين لتحرير هذا المسجد المبارك من أيدي المحتل ، ولكنهم قد
يكونون لسببٍ أو لآخر عاجزين عن ذلك حتى أنهم يتمنون فقط النظر إليه ، وهي مرحلةٌ
من مراحل الضعف التي قد تصاب بها الأمة، ولذلك نحن نبذل قصارى جهدنا في أن لا نصل
لهذه المرحلة ، ومن هنا ترى المسلمين في شتى بقاع الأرض تأخذهم الحمية لنصرة
المسجد الأقصى المبارك عندما يُصاب بأي أذى ؛ لما له من مكانةٍ عظيمةٍ في ديننا
هذا أولاً ، ولئلا نصل إلى هذه المرحلة التي تكون فيها النفس منكسرةً أمام أعدائها
وهم يجلدونهم ويقتلونهم ويعتدون على أعراضهم ويسلبون مقدساتهم أمام أعينهم .
إن قضية
المسجد الأقصى المبارك قضيةٌ إسلاميةٌ أصيلة لا تتعلق بأهل بلدٍ معين ولا بجنسٍ
ولا عرقٍ ؛ إذ تعلقها بكل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله ، وهو ما يجب أن نؤكد عليه دوماً ، وأن نغرسه في نفوس أبنائنا حتى يأتي
ذلك اليوم الذي ينتصر فيه الحق على الباطل ، وتتحرر هذه الأرض الطيبة المباركة من
أيدي اليهود المحتلين، ويمكّن الله عز وجل لأهل الإيمان من إقامة دينه وشرعه في
تلك الأرض المقدسة ، وهو أمرٌ لا بد آت { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } ، { وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } .
تحرير بيت
المقدس من أيدي اليهود الغاصبين يجب أن يكون همُّ كل مسلم ، وأن يبذل من أجله كل ما يستطيع ، ولا يكلف الله نفساً
إلا وسعها .. يجب أن تكون هذه القضية حاضرة في مناهجنا الدراسية وفي وسائل إعلامنا
وفي ندواتنا ومؤتمراتنا ومحافلنا الدولية .
لا يدفعُ
الدمعُ عنا أيَّ نازلةٍ .. ولا يُعيدُ التغني زهوَ ماضينا
نرقى إلى
المجدِ إن صحَّت عزائمُنا .. وبارك الله ما تبني مساعينا
صلاح الدين
الأيوبي رحمه الله عاش طوال حياته من أجل هذه القضية حتى أكرمه الله عز وجل بتحرير
بيت المقدس من أيدي الصليبيين الذين
احتلوه لمدة إحدى وتسعين سنة ، رجلٌ صدق الله فصدقه الله ..كان بيت المقدس يعيش في
قلبه قبل أن ينطق لسانه وسيفه بنصرته ، وكان كما يذكر أصحاب السير والتراجم في
سيرته زاهداً في الدنيا وملذاتها ، قليل الطعام ، لا يتناول إلا الشيء اليسير ،
ولما سئل عن سبب ذلك قال : (كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس
بأيدي الصليبيين ؟!) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق