قبل ذهابي للدراسة
بجامعة الكويت في مرحلة البكالوريوس نصحني أحد المشايخ الفضلاء في البحرين بقراءة
أحد الكتب التي اهتمت ببيان آداب طلب العلم ، وذكر لي بأن مؤلف هذا الكتاب أحد الأساتذة
الذين يدرِّسون بالجامعة ، وفعلاً حرصت على قراءة ذلك الكتاب من أوله إلى آخره ،
وقد استفدت كثيراً من تلك الآداب التي ذكرها المؤلف في طلب العلم حيث أن كثيراً
منها عبارة عن نقولات عن السلف الصالح في ذلك.
وعندما ذهبت للدراسة
بالكويت حرصت على رؤية ذلك المؤلف ، وسألت عنه بالكلية ، وأرشدني أحد الأساتذة إلى
مكان مكتبه ، فأسرعت الخطى، وكلي شوق لرؤيته ، والسلام عليه ، فوصلت إلى باب
مكتبه ، وكان ذلك في الساعة الثامنة إلا ربع صباحاً تقريباً ، فطرقت الباب ،
وألقيت عليه التحية تحية الإسلام فقلت : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإذ بي
أفاجأ بذلك الأستاذ يصرخ بوجهي دون حتى أن يرد عليَّ السلام قائلاً : نعم ، ماذا
تريد؟ والله عندي محاضرة بعد قليل ؟ يا أخي ماذا تريد ؟ بصوتٍ عالٍ جداً ، فوقفت
عندها مذهولاً من ذلك الموقف ، وقد انعقد لساني ، فلم أستطع حتى أن أرد عليه بشيء
، فلما رآني كذلك خفف من نبرته ، ولكنه لم يخفف من جفوته وشدته ، فقال : نعم ماذا
تريد ؟ قلت : لا شيء ، فقال : هل أنت طالب عندي ؟ قلت : لا، شكراً ، وخرجت .
وبعد عدة فصول اضطررت
لأخذ أحد المقررات الدراسية عند ذلك الدكتور ، ولم أستفد في الحقيقة أي فائدة منه
رغم حصولي على درجة الامتياز في المقرر ؛ وذلك أنه كان منشغلاً طوال المحاضرات في
الكلام حول الأحزاب والجماعات ، وانتقاد فلان وعلان ، والحديث عن سفراته الخاصة ،
ونزهاته البرية ، وما يأكله وما لا يأكله ! مضيِّعاً بذلك أوقات المحاضرة فيما لا
فائدة منه ! ولا أقول ذلك مبالغة ، فمن أخذ معي من الإخوة ذلك المقرر يذكر ذلك
جيداً .
لقد كان ذلك الموقف من
أشد المواقف التي مرت عليَّ في مرحلة البكالوريوس ، وقد استمرَّ أثره في قلبي عدة
أيام، والسبب أن من كنت في شوقٍ إلى لقائه بعد قراءتي لكتابه قد خالف أهم المبادئ
التي أخذ بالتأصيل لها والتأكيد عليها في مؤلَّفِهِ الذي يتحدث فيه عما يجب وينبغي
أن يكون عليه طالب العلم من الأخلاق الفاضلة ، فأين هي تلك الأصول والمبادئ والأخلاق
التي ذكرها فضيلة الدكتور ؟!
ومع مرور الأيام
والشهور والسنوات صدمت أكثر بالواقع الذي نعيشه ؛ فقد رأيت العديد من أولئك الذين
يؤصلون للمبادئ والقيم هم أول من يخالفها في ممارساتهم العملية في الحياة ، منتهى
التناقض بين أقوالهم وأفعالهم ، تراه يحدث عن الصدق وهو أكذب الكاذبين ، يذكر أن
من صفات المنافقين إخلاف الوعد وهو لا يلتزم بأي وعدٍ يقطعه على نفسه تجاه الآخرين
، يتحدث عن خشية الله ومخافة الله وهو أول من ينتهك محارم الله ، يأمر بالعدل ولا
يأتيه ، وينهى عن الظلم ويقع فيه ، يدعو إلى الأمانة ولا يقوم بها ، ويحذر من
الخيانة وهو رأسٌ بين أصحابها ، يحث الناس على أداء الحقوق إلى أصحابها وهو أول من
يمنعها ويجحد الآخرين حقوقهم ، ينبِّه بحق المسلم على أخيه المسلم وهو ينتهك تلك
الحقوق في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة ، يخاطب الناس آمراً لهم بالوحدة
والاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف وهو من يعمل ليل نهار في تفكيك وحدة الأمة
واجتماع كلمتها وبث روح الكراهية والعداوة والبغضاء بين أبناء المسلمين !
آهٍ ثم آه ، واقعٌ
مريرٌ نعيشه يحتاج منا إلى إعادة محاسبة أنفسنا ، حتى نكون على قدرٍ من المسؤولية
تجاه ديننا الإسلامي ، فإن هذا الدين لا يمكن أن ينتشر ولا أن يقوى بأمثال أولئك
الذين تكون أقوالهم في وادٍ وأفعالهم في وادٍ آخر ، إن هذا الدين يحتاج إلى رجال صادقين
مع الله قبل أن يكونوا صادقين مع الناس ، وذلك أن صدقهم مع الله جل وعلا سيقودهم
حتماً إلى الصدق مع الناس { منَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا
تَبْدِيلاً } .
لا نحتاج اليوم إلى
الساعات الطوال التي نقضيها في التأليف والتنظير ، وإنما نحتاج إلى الدقائق
والثواني البسيطة التي نترجم فيها ما ننظر له ونتحدث به في المجالس والخطب والدروس
والمحاضرات إلى واقعٍ عملي يتفيَّأ الناس ظلاله ، فإن ذلك والله أبلغ بكثير من كل
تلك الخطب والدروس والمحاضرات ، إننا اليوم بأمس الحاجة إلى ذلك المسلم الحقيقي
الذي يطبق تعاليم دينه في حياته اليومية ، فمجرد معرفة تعاليم الدين لا تكفي بل
إنها تكون حجة على صاحبها يوم القيامة لا سيما إن كان من أهل العلم وطلبته .
وعيدٌ شديد ذكره النبي
الكريم صلوات الله وسلامه عليه لمن كانت أفعالهم مناقضةً لأقوالهم حيث يقول عليه
الصلاة والسلام : ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتابُ
بطنه ، فيدور بها كما يدور الحمار بالرَّحى ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا
فلان ما لكَ ؟! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟! فيقول : بلى ، قد كنت
آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه ) .
إن مثل هذه الإشكالية
التي باتت اليوم تزداد بشكلٍ ملاحظ ليست مسألةً فرعيةً ثانوية بل هي مسألةٌ منهجيةٌ
أساسية تستلزم علينا جميعاً السعي لمعالجتها بالتربية الإسلامية الأصيلة لأنفسنا وأبنائنا
، المبنية على العلم والعمل ، ندعو إلى الصدق لا بد أن نكون صادقين ، نحذر من
الظلم فنكون أبعد الناس عنه ، نأمر بالمعروف ونأتيه ، وننهى عن المنكر فنكون أول
المجتنبين له ، وهكذا ، فلا بد أن تصدق أفعالنا أقوالنا وإلا كنا من أولئك الذين ذمهم
الله في كتابه الكريم بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق