الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

الوشاية بقلم : د.أحمد العازمي

يُقال في اللغة: وشى به إلى السلطان ويشي ووِشايةً أي نمَّ عليه وسعى به، فالوشايةُ تحريضٌ لمنع حق من الوصول إلى صاحبه أو للإضرار بشخص ما، وقد تكون بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة، فلدينا هنا ثلاثة أطراف في الوشاية: الواشي ومن وُشي به وصاحب السلطة الذي يملك الولاية والقرار والنفوذ.

وهذه الوشاية قد تكون في مجال الأسرة أو العمل أو المجتمع أو الدعوة أو السياسة حيث المكائد والدسائس والمخططات والمؤامرات سواء على مستوى الأفراد أو الأحزاب والجماعات أو الدول والمنظمات .

في غالب الأمر يكون الواشي قريباً من صاحب الولاية أو السلطة أو المنصب، ويسعى لتنحية منافسيه بشتى الطرق والوسائل، وتراه يجتهد ويفكر ويدبر للفتك بخصومه ومخالفيه أو من يراه ويظن بأنه مهدداً لمكانته ومنزلته عند ذوي الولاية والسلطان والمنصب والنفوذ، فيسعى لإثارة صاحب الولاية والسلطة والنفوذ على فلانٍ من الناس ممن عُرف بالفضل والمكانة والمزِيَّةِ على غيره، لابساً في مكره وخديعته لباس الحمل الوديع وفي حقيقته الوحش الكاسر، مُظهراً النصيحة والشفقة، ومُضمراً الشر والخُبث، مُستعدياً بوشايته من كان قريباً من صاحب الولاية والسلطة والنفوذ، ومثيراً للفتنة بينهما، وفاتحاً باب شر على من يزعم النصيحة له، وقديماً قيل:

ومن يُطعِ الواشين لا يتركوا له .. صديقاً وإن كان الحبيب المقرَّبا

وعلى مر التاريخ لم يمرَّ زمانٌ ولم يخلُ مكانٌ من أصحاب الوِشايات، ممن غرتهم الحياة الدنيا، وعضوا عليها بالنواجذ، وكانوا مثالاً لمن باع أخراه بدنياه، والعجيب في هذا الأمر ليس في وجود أمثال هؤلاء في كل زمان ومكان، وإنما العجيب في الأمر أن بعضاً من هؤلاء ممن يُظهر التديُّن والصلاح، ومن المفروض أن يكونوا من أنقى الناس قلوباً، وأصفاهم سريرةً، وأكثرهم تقى وزهداً وورعاً، وكفاً عن أذى الآخرين! فهم الذين يتلون قول الله تبارك وتعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخواناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَٰبِلِينَ}، وقوله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقوله جل وعلا: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وقوله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۚ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا}، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وهم الذين يروون قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتَّات)، وقوله صلوات ربي وسلامه عليه: (مثَلُ المؤمنين في تَوادّهِم وتَراحُمِهِم وتَعاطُفِهِم مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى)!

إن من نراهم اليوم يسعون للإضرار بإخوانهم ما هم إلا أحفاد أولئك الذين قاموا بالوِشاية بعلمائنا وفقهائنا ودعاتنا من قبل عند ذوي السلطان وأصحاب القرار والنفوذ، فقد سبق وأن وُشي كذباً وزوراً على الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام مالك بن أنس والإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والإمام البويطي وشيخ الإسلام ابن تيمية وسلطان العلماء العز بن عبدالسلام وغيرهم من الأئمة الأعلام الذين لم تزدهم الوشايةُ بهم إلا رفعةً وسمواً وعلواً بصبرهم ويقينهم بالله جل وعلا، وصدق فيهم قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، وكانوا بذلك رموزاً في الثبات على الدين والقيم والمبادئ، وأما أولئك ممن وشوا بهم فلا يذكرهم التاريخ إلا بالنقائص والمعايب والسوء.

لقد اتهموا أبو حنيفة ورموه بالشنائع، وزعموا بأنه يخالف أوامر الخليفة برفضه تولي القضاء، مما يعني أنه عصى ولي الأمر بل ولا يرى طاعةً له، وأنه من الخارجين على الإمام - كذباً وزوراً وبهتاناً - وحبسوه وضربوه على ذلك، مع أنَّ رفض تولي القضاء لا يعني بالضرورة مخالفة ولي الأمر ولا الخروج عليه ولا أياً من تلك الأقاويل التي زعموها وافتروها على الإمام ووشوا بها، ولكنها الوشاية في ثوبها الممزق وصورتها البشعة.

وجلدوا الإمام مالك بن أنس في فتواه بعدم وقوع طلاق المكره، حيث كانوا يأخذون البيعة من الناس بأيمان الطلاق، فكان يفتي بعدم وقوع طلاق المكره، وزعموا بذلك أنه يقول بجواز الخروج على الخليفة ويدعو إلى ذلك حتى جُلد على إثر هذا الأمر وهو إمام دار الهجرة ونجم العلماء!

وقد وُشي بالإمام الشافعي عند الخليفة هارون الرشيد وسُجن، وزُعم بأنه يُناصر معارضي الخليفة ويجوّز الخروج عليه -كذباً وزوراً-، وعُرض على السيف وكاد الخليفة أن يضرب عنقه لولا لطف الله وتسخيره الإمام محمد بن الحسن الشيباني للإمام الشافعي في مجلس الرشيد حيث انتصر له ورد عنه ما ادُّعي عليه كذباً وزوراً، وشهد له بالعلم والفضل.

ولا يخفى على أحدٍ أيضاً ما فُعل بالإمام أحمد في فتنة القول بخلق القرآن التي ابتدعها المعتزلة وامتحنوا الناس عليها، حيث سُجن وجُلد ومُنع من التدريس، كل ذلك بسبب وشايات لذوي السلطان والنفوذ والقرار التي لا يزال البعض يستمتع بممارستها!

كل تلك الوشايات ذهبت وذهب أصحابها، وقد سقطوا من أعين الناس، وأصبحوا جزءاً من الماضي، ولا يذكرهم التاريخ إلا بسوء فِعلتهم، وبات أولئك الأئمة العِظام أعلاماً للأمة، ومنارات للهدى والصلاح والرشاد إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها، فهم أتباع الأنبياء والرسل بحق، وقد تحملوا الأمانة والمسؤولية في تعليم الناس والتبليغ عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فنالهم بسبب ذلك بعضاً مما نال الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من قبلهم {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

أين حال أولئك الوُشاة من حال أولئك الأئمة الأعلام والدعاة الفضلاء ممن وُشي بهم، فقد كان الإمام أبو حنيفة النعمان -رحمه الله- من أكثر الناس صلاةً، وكان يحيي الليل صلاةً ودعاءً وتضرُّعاً، وكان أبعد ما يكون عن المحرمات، وكان مكتفياً في الجانب المالي، حيث كان تاجراً ولم يمد يديه لأعطيات السلاطين وأصحاب المناصب والنفوذ، وكان يتعاهد طلابه وتلاميذه ويساعد من كان محتاجاً منهم، وكان الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- شغله الشاغل في بيته قراءة القرآن الكريم، وكان يطيل الركوع والسجود في صلاته بالليل، وكانت أكثر عباداته في السر، حيث لا يراه أحد، وإذا رأيته رأيت الخشوع والوقار والهيبة والخشية من الله جل وعلا في وجهه، وكان الإمام الشافعي -رحمه الله- يجزئ الليل أثلاثاً، ثلثاً يكتب، وثلثاً يصلي، وثلثاً ينام، وكان الإمام أحمد -رحمه الله- يختم القرآن كل سبعة أيام، وكان يُكثر الصيام وهو في السجن، وكان عفيفاً، رافضاً للأعطيات، وكانت مجالسه عامرةً بذكر الله والدار الآخرة، وأمثال هذه الأحوال لا يمكن أن يكون عليها أولئك الوشاة لا من قبل ولا من بعد، فحُقَّ لأولئك الأعلام أن يرفع الله ذكرهم في العالمين، وحُقَّ لأولئك الوشاة أن يمحو الله ذكرهم، ويُخفض منازلهم بين الناس، فهم الصغار مهما علت مناصبهم، ومهما كثرت أموالهم، ومهما وضعوا لأنفسهم من الألقاب.

إن بعضاً من أولئك الوشاة قد دارت عليهم الدوائر في الدنيا، وما كانوا لضعف إيمانهم ويقينهم يتصورون بأن الدوائر ستدور عليهم في يومٍ من الأيام، ولكنها سنة الله في خلقه {وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ} ، وقد انتقم الله جل وعلا منهم في الدنيا، وما ينتظر من لم يتب منهم ومن لم يَغفر لهم ويعفوا عنهم من وشوا بهم وأوقعوا بهم الضرر أعظم عند الله، حتى قال الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- في إحدى الروايات المروية في محنته عندما قيل له: إن جعفر بن سليمان قد ضرب فلاناً وحلق رأسه ولحيته وأقامه للناس، فقال مالك: وما تريدون به، أترون حظنا مما نزل به النظر إليه والشماتة به؟! إنا نؤمّل من ثواب الله ما هو أعظم من ذلك، ونؤمّل له من عذاب الله ما هو أشدُّ من ذلك.

فيا ويل كل أولئك الوشاة من الله وعقابه وعذابه، فهم الهمازون المشاؤون بنميم، مشعلوا الفتن ووقود النيران في الأرض، فكم خاضوا في الأعراض، واتهموا النيات، وكشفوا العورات، وانتقصوا أهل العلم والعقل والحكمة والمروءات، وكم أوغروا من صدور، وزرعوا من أحقاد، وفرَّقوا بين الأحباب، وكم قطَّعوا من أواصر، وبثوا من شرور في المجتمعات؟!

ولسان حال بعض من ابتُلي بالوشاية به من قبل بعض الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو التيارات أو غيرهم: إنا والله نؤمّل من ثواب الله ما يرفع به درجاتنا عنده في الآخرة ونؤمّل لكم من عذاب الله ما يُذيقكم به بأسه ويقيم به عدله {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَٰطِلَ ۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ}.

الجمعة، 5 نوفمبر 2021

الأطفال في الأسرة بقلم : د.أحمد العازمي

 

تعتبر الأسرة المؤسسة التربوية الأولى التي نشأت مع بداية خلق الإنسان بل وفي أحسن الأماكن وأطهرها وهي الجنة ، حيث خلق الله تبارك وتعالى آدم وحواء وكان الارتباط الوثيق ما بينهما ؛ ليكمل كلٌ منهما الآخر في هذه الحياة الدنيا وتبدأ حياة البشرية بذلك { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } ، وهو ما يدلنا على أهمية الأسرة في ديننا الإسلامي ، وضرورة الاعتناء بها، وتوفير البيئة المناسبة لها ؛ فالأسرة هي النواة الأولى للمجتمع ، والخلية واللَّبِنة الأساسية في تكوين البناء الاجتماعي ، وهي مصنع الأجيال ، والرجال العظماء ، والنساء الصالحات ، ففيها يتم وضع البذور الأولى في التنشئة والتربية ، وهي التي تقوم بتشكيل الملامح الأساسية لشخصية الإنسان ، وإكسابه القيم والمفاهيم والاتجاهات ، ونمط علاقته مع الآخرين ، وهي التي تقوم بتكوين اتجاهاته وميوله وفكره وثقافته وسلوكه في المجتمع ، ومن هنا قال النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه : ( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).

إعداد الطفل جسمياً وعقلياً ونفسياً وروحياً ووجدانياً واجتماعياً حتى يكون عضواً صالحاً ونافعاً لنفسه ومجتمعه وأمته هي المهمة الأساسية والأولى للأسرة ، وعمارة هذه الحياة الدنيا التي نعيش فيها لا يمكن أن تكون إلا بأفرادٍ صالحين يشعرون بالمسؤولية ، ويكونون قادرين على تحمل تبعاتها ، والنهوض بأوطانهم نحو التقدم والرقي والازدهار ، وهؤلاء الأفراد من الصعب أن ينشؤوا في ظل أسرٍ مضطربة ومتفككة ، ومن هنا ترى أن إبليس يحرص هو وأتباعه وأولياؤه من شياطين الإنس والجن على إفساد الأسرة وتفككها بشتى الطرق والوسائل ، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعتَ شيئاً ، ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ويقول : نِعْمَ أنتَ ) يُثني عليه ويقربه منه إعجاباً بفعله وصنيعه .

إن المسؤولية التي تقع على عاتقنا اليوم في تربية أطفالنا مسؤولية كبيرة ، ولم يعد أمرها بالشيء الهين ، لا سيما مع الثورة الإعلامية الهائلة ووسائل التقنية والأجهزة الذكية التي باتت اليوم بيد كثير من الأطفال دون حسيب ولا رقيب ، حيث تساهم هذه الوسائل كلها - شئنا أم أبينا - في تنشئة الطفل وصياغة شخصيته وميوله واتجاهاته ونظرته للآخرين من حوله وكيفية تعامله معهم ، كل ذلك يجعل المسؤولية على الوالدين في الأسرة كبيرة ، فهل نكون فعلاً على قدر هذه المسؤولية أم نكون سبباً في ضياع أبنائنا ونشأتهم بشكلٍ غير سوي ؟!

الأربعاء، 6 أكتوبر 2021

كيف ندمر مجتمعاتنا ؟ بقلم : د.أحمد عادل العازمي

لم يعد خافٍ على أحد ما نعانيه في مجتمعاتنا الإسلامية من فُرقةٍ واختلافٍ وتشتت وضياع، ومكائد ودسائس ومؤامرات تُحاك هنا وهناك، مرات باسم التجارة، وتارة باسم التنمية، وأخرى باسم السياسة، وأحياناً باسم الدين وحماية الإسلام والدفاع عن قضايا المسلمين ومراعاة المصالح والمفاسد في ذلك -زعموا-، ولكن في النهاية كلها مكائد ودسائس ومؤامرات مع اختلاف المسميات واللباس والحجج والتبريرات التي يحاول البعض إقناع نفسه أو أتباعه أو جماعته وحزبه بها، وكل منهم يحسب أنه يُحسن صُنعاً ! ولو سألت أي واحدٍ من أولئك ما هي أفضل طريقة لتدمير المجتمعات وإفساد الأوطان وتضييع مصالح الأمة لما كان جوابه خارجاً عن أفعاله !

يكذب ويغتاب، ويبهت ويفتري، ويشي ويُراوغ، ويغش ويخادع، ويشهد بالباطل، ويُوقع الظلم على الآخرين، ويدمر مستقبل أناس ويتسلق على أكتافهم، ويأخذ ما لا يستحق، ويطلب ما كان لغيره، ويتلاعب بالمفاهيم والمصطلحات، ويقدح في الثوابت الشرعية، والمعتقدات المسلَّمة، والأحكام القاطعة، ويصمت صمت القبور عن المنكرات الظاهرة، وعن التلاعب بمصالح الناس ومعايشهم، ويتَّهم ويصنف ويُشنع على من يسعى فيما يكون به صلاح المجتمع والوطن وعزُّ الأمة ورفعتها ! كل ذلك في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية والحزبية والدنيوية وإن أنكره وصرخ بأعلى صوته وحلف بالأيمان المغلَّظة بأنه لا يفعل ذلك إلا من أجل الدين والمجتمع وفي سبيل المصلحة العامة، وفي الحقيقة والواقع أن أفعاله كلها تصب في تدمير المجتمع وإفساد الوطن وتضييع مصالح الأمة .

كم ضيَّع أولئك من مصالح للمجتمع وللوطن وللأمة في سبيل تحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية والدنيوية ؟! وكم همَّشوا من كفاءات كان من الممكن الاستفادة منها في نفع المجتمع وبناء الوطن ونهضة الأمة ؟! كل ذلك ضُيع من أجل مصالح شخصية وحزبية ودنيوية !

مفاسد عديدة تم جلبها للمجتمع والوطن والأمة بسبب تقديم المصالح الشخصية والحزبية والدنيوية على مصالح المجتمع والوطن والأمة، حقوقٌ هُدرت، ومظالم وقعت، وخصومات ونزاعات وعداوات نشأت في مجتمعاتنا بسبب تقديم هذه المصالح الشخصية والحزبية والدنيوية، وقد استغل أعداء الأمة كل ذلك بل وغذوه وأمدوه بكل ما من شأنه أن يزيد من إثارته وشراسته وضراوته واشتعاله؛ حتى تكون السيادة والتفوق والعلو لهم في هذه الحياة الدنيا، وقد تناسى كل أولئك قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .

أنَّى لمن انغمس في هذه الحياة الدنيا وشهواتها وملذاتها وذاق حلاوتها وربط مصالحه الشخصية بها أن يعي ما أقوله جيداً؛ فقد فتحت لهم الدنيا ذراعيها، وأقبلوا عليها إقبال الملهوف، وأكلوا من مائدتها أكل الجائع الشَّرِه، واعتادوا على العيش في ظل بساتينها وخُضرتها، وتنافسوا على تولي المناصب فيها بطرق لا يمكن أن تُقبل في الشريعة الإسلامية التي يُتاجر باسمها اليوم ويُتكسَّب من ورائها !

كل تلك الأقنعة التي لُبست في سبيل تحقيق المصالح الشخصية والحزبية والطائفية بدأت تتساقط اليوم، ولم تعد مجتمعاتنا الإسلامية تنخدع بتلك الأقنعة بدليل أنها قد أسقطت في الانتخابات النيابية في عدد من البلدان أولئك الذين استغلوا الدين استغلالاً بشعاً من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية والطائفية ونيل تلك المناصب الدنيوية مع أنهم كانوا في يومٍ من الأيام يرفعون راية "الدين" و"الإصلاح" و"العدالة"، ويزعمون بأن دخولهم في تلك الانتخابات لم يكن من أجل أمور دنيوية، ولكن أفعالهم كلها كانت تناقض أقوالهم وتتجه بخلاف ما زُعم، فقد استغل الكثير منهم مناصبهم في سبيل تحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية والطائفية، وضربوا بعرض الحائط مصالح المجتمع والوطن والأمة، وبذلك كانوا سبباً في تراجع الأوضاع في مجتمعاتنا وأوطاننا، وصدق فيهم وفي أمثالهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلِكَكُم كما أهلكتهم) .

أخيراً أقول: حُقَّ على كل من وقع في تقديم مصالحه الشخصية والحزبية والطائفية والدنيوية على بني قومه ومجتمعه ووطنه وأمته أن يُراجع ويُحاسب نفسه قبل أن يقف بين يدي الخالق جل وعلا للسؤال والحساب، فوالله إن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، كما أنها زائلة وفانية بكل ما فيها، وهي دار ممر لا دار مستقر كما قال الله جل وعلا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، وقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .

يا رب أحسن نياتنا ومقاصدنا وأقوالنا وأعمالنا .