لم يعد خافٍ على أحد ما
نعانيه في مجتمعاتنا الإسلامية من فُرقةٍ واختلافٍ وتشتت وضياع، ومكائد ودسائس
ومؤامرات تُحاك هنا وهناك، مرات باسم التجارة، وتارة باسم التنمية، وأخرى باسم السياسة، وأحياناً
باسم الدين وحماية الإسلام والدفاع عن قضايا المسلمين ومراعاة المصالح والمفاسد في
ذلك -زعموا-، ولكن في النهاية كلها مكائد ودسائس ومؤامرات مع اختلاف المسميات
واللباس والحجج والتبريرات التي يحاول البعض إقناع نفسه أو أتباعه أو جماعته وحزبه
بها، وكل منهم يحسب أنه يُحسن صُنعاً ! ولو سألت أي واحدٍ من أولئك ما هي أفضل
طريقة لتدمير المجتمعات وإفساد الأوطان وتضييع مصالح الأمة لما كان جوابه خارجاً
عن أفعاله !
يكذب ويغتاب، ويبهت ويفتري،
ويشي ويُراوغ، ويغش ويخادع، ويشهد بالباطل، ويُوقع الظلم على الآخرين، ويدمر
مستقبل أناس ويتسلق على أكتافهم، ويأخذ ما لا يستحق، ويطلب ما كان لغيره، ويتلاعب
بالمفاهيم والمصطلحات، ويقدح في الثوابت الشرعية، والمعتقدات المسلَّمة، والأحكام
القاطعة، ويصمت صمت
القبور عن المنكرات الظاهرة، وعن التلاعب بمصالح الناس ومعايشهم، ويتَّهم ويصنف
ويُشنع على من يسعى فيما يكون به صلاح المجتمع والوطن وعزُّ الأمة ورفعتها ! كل
ذلك في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية والحزبية والدنيوية وإن أنكره وصرخ بأعلى صوته
وحلف بالأيمان المغلَّظة بأنه لا يفعل ذلك إلا من أجل الدين والمجتمع وفي سبيل
المصلحة العامة، وفي الحقيقة والواقع أن أفعاله كلها تصب في تدمير المجتمع
وإفساد الوطن وتضييع مصالح الأمة .
كم ضيَّع أولئك من مصالح
للمجتمع وللوطن وللأمة في سبيل تحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية والدنيوية ؟! وكم همَّشوا من كفاءات كان من الممكن الاستفادة منها في
نفع المجتمع وبناء الوطن ونهضة الأمة ؟! كل ذلك ضُيع من أجل مصالح شخصية وحزبية ودنيوية
!
مفاسد عديدة تم جلبها
للمجتمع والوطن والأمة بسبب تقديم المصالح الشخصية والحزبية والدنيوية على مصالح
المجتمع والوطن والأمة، حقوقٌ هُدرت، ومظالم وقعت، وخصومات ونزاعات وعداوات نشأت في مجتمعاتنا بسبب
تقديم هذه المصالح الشخصية والحزبية والدنيوية، وقد استغل أعداء الأمة كل ذلك
بل وغذوه وأمدوه بكل ما من شأنه أن يزيد من إثارته وشراسته وضراوته واشتعاله؛
حتى تكون السيادة والتفوق والعلو لهم في هذه الحياة الدنيا، وقد تناسى كل أولئك
قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ
وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ} وقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا
وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ
أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
أنَّى لمن انغمس في هذه الحياة
الدنيا وشهواتها وملذاتها وذاق حلاوتها وربط مصالحه الشخصية بها أن يعي ما أقوله
جيداً؛ فقد فتحت لهم الدنيا ذراعيها، وأقبلوا عليها إقبال الملهوف، وأكلوا من
مائدتها أكل الجائع الشَّرِه، واعتادوا على العيش في ظل بساتينها وخُضرتها، وتنافسوا على تولي المناصب
فيها بطرق لا يمكن أن تُقبل في الشريعة الإسلامية التي يُتاجر باسمها اليوم
ويُتكسَّب من ورائها !
كل تلك الأقنعة التي لُبست
في سبيل تحقيق المصالح الشخصية والحزبية والطائفية بدأت تتساقط اليوم، ولم تعد مجتمعاتنا الإسلامية تنخدع بتلك الأقنعة بدليل
أنها قد أسقطت في الانتخابات النيابية في عدد من البلدان أولئك الذين استغلوا
الدين استغلالاً بشعاً من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية والطائفية ونيل تلك
المناصب الدنيوية مع أنهم كانوا في يومٍ من الأيام يرفعون راية
"الدين" و"الإصلاح" و"العدالة"، ويزعمون بأن دخولهم
في تلك الانتخابات لم يكن من أجل أمور دنيوية، ولكن أفعالهم كلها كانت تناقض
أقوالهم وتتجه بخلاف ما زُعم، فقد استغل الكثير منهم مناصبهم في سبيل تحقيق مصالحهم
الشخصية والحزبية والطائفية، وضربوا بعرض الحائط مصالح المجتمع والوطن والأمة،
وبذلك كانوا سبباً في تراجع الأوضاع في مجتمعاتنا وأوطاننا، وصدق فيهم وفي
أمثالهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم،
ولكني أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما
تنافسوها، وتُهلِكَكُم كما أهلكتهم) .
أخيراً أقول: حُقَّ على كل من وقع في تقديم مصالحه الشخصية
والحزبية والطائفية والدنيوية على بني قومه ومجتمعه ووطنه وأمته أن يُراجع ويُحاسب
نفسه قبل أن يقف بين يدي الخالق جل وعلا للسؤال والحساب، فوالله إن هذه الدنيا
لا تعدل عند الله جناح بعوضة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو
كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، كما أنها
زائلة وفانية بكل ما فيها، وهي دار ممر لا دار مستقر كما قال الله جل وعلا: {وَمَا
هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، وقال سبحانه: {اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا
وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} .
يا رب أحسن نياتنا ومقاصدنا وأقوالنا وأعمالنا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق