يتحدث كثيرٌ من الخطباء
والدعاة وطلبة العلم عن تلك الفتن التي يتعرض لها كثيرٌ من الناس في حياتهم، ويغفلون
عن تلك الفتن التي يتعرضون لها هم أنفسهم في الحياة الدنيا!
قد لا تُغري ذلك
الداعية امرأةٌ فاتنة الجمال، ويمتثل بما أُمر به من غض البصر، وإعفاف نفسه
بالزوجة الصالحة، وقد لا يُقدِم على محظورٍ شرعيٍ في الظاهر، وربما ترى عنده نشاطاً بارزاً في جانبٍ من الجوانب، ولكنه قد لا يستطيع السيطرة على نفسه تجاه فتنة المال
والمنصب والنفوذ، فتراه يتخلى عن مبادئه وقيمه وكثيرٍ من أحكام دينه التي ينادي
بها بمجرد أن ينال منصباً معيناً أو تُعرض عليه بعض الأموال التي من شأنها أن
تُحسِّن من مستوى معيشته وترتقي بها.
السيارة المتواضعة
التي يستعملها سيكون بمقدوره أن يشتري مكانها أخرى هي أفضل منها فيما لو كان لديه
تلك الأموال.
بإمكانه أن
يتوسع في مسكنه ويؤثث بيته بأجود أنواع الأثاث وأرقاه لو كانت لديه تلك الأموال.
سيكون بمقدوره
أن يؤسس مشروعه التجاري الخاص الذي لطالما حلم به، وسيكون لديه العديد من الموظفين
الذين يعملون تحت إمرته.
سيدخل أبناؤه
وبناته أفضل المدارس والجامعات الخاصة، وسيلبي جميع احتياجاتهم ومطالبهم، وكل ما كان
محروماً منه وغير قادر على شرائه في الماضي.
لن يضطر
للانتظار وأخذ المواعيد الصحية من المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية من أجل
تلقي العلاج له ولزوجته ولأبنائه وبناته، فالمستشفيات والمراكز الصحية الخاصة لن
تعجزه ولن تؤثر على ميزانيته الشهرية.
في كل إجازةٍ
صيفية سيسافر هو وزوجته وأولاده لاستكشاف بلدٍ معين لم يكن بمقدوره السفر إليه
سابقاً.
رصيده البنكي
سيزيد وسيظهر عليه أثر الثراء .. كل ذلك وأكثر سيكون واقعاً في حياته لو قبل تلك
الأموال المحرمة أو المشبوهة في أقل أحوالها.
جريانه وراء
المال سيزيد يوماً بعد يوم، وشيئاً فشيئاً تضعف علاقته مع ربه شاء أم أبى؛ لأنه
افتُتن بهذا المال ولم يصبر في مواجهة تلك الفتنة، وفي ذلك يقول الله تبارك
وتعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن
ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، خسارةٌ وأيُما خسارة يقع فيها ذلك
الداعية وهو لا يشعر بل يظن بأنه الرابح في هذه الحياة الدنيا، وأن ما ينتظره عند
الله أعظم، وهو قد آثر ما يفنى على ما يبقى!
كل تلك المطالب
وكل تلك الاحتياجات لا مشكلة فيها بذاتها، وإنما المشكلة فيما لو أراد ذلك الداعية
تحقيقها بأموالٍ لا يملكها، أموالٍ محرمةٍ أو مشبوهةٍ، جاءت إليه بطرقٍ غير شرعية،
فلم يملك إلا أن يقع في أسر فتنتها، ويسقط في ذلك الاختبار الذي اختبره الله تبارك
وتعالى به، وقد حذرنا سبحانه منه في قوله: {وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]، وقال جل وعلا في آية أخرى: {إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا
خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 15-17]، وقال
سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
بسبب ذلك المال الذي
قبله على نفسه وسقط في فتنته تراه قد تحالف مع سياسيٍ قد عاث في الوطن فساداً،
ونهب ثروات البلد، ومقدرات الشعب، وسلب حقوق الناس، وربما تلطخت يده بدماء
الأبرياء!
بسبب ذلك المال الذي قبله على نفسه وسقط في فتنته دفع امرأته الطيبة الصالحة لحضور حفلات ماجنة وصاخبة،
وفيها ما الله به عليم من المخالفات الشرعية بحجة "المجاملة" وإجابة
دعوة "رب المال".
بسبب ذلك المال
الذي قبله على نفسه وسقط في فتنته غير كثيراً من مواقفه الشرعية، وترك ما كان
ينادي به من مبادئ وقيم وثوابت.
بسبب ذلك المال
الذي قبله على نفسه وسقط في فتنته أخذ يتلاعب بالأحكام الشرعية، ويأتي بتأويلات
فاسدة، وأقيسة باطلة، وأقوال شاذة، ويضرب بعرض الحائط أقوال أئمة الإسلام العِظام.
بسبب ذلك المال
الذي قبله على نفسه وسقط في فتنته لم يعد ما كان يصفه بأنه "بدعة" بدعة،
بل تراه من أوائل المقيمين لهذه "البدعة"؛ وذلك أنه مطلوبٌ منه بحكم منصبه
ووظيفته أو بحكم ما يصله من أموال أن يكون من أوائل الحاضرين والمشاركين، وربما
تطوَّع من نفسه لذلك؛ لينال "الحظوة" و"التقديم"
و"المكافآت" و"الأعطيات" و"المكرمات"!
وربما أخذ يخادع
نفسه وأتباعه لتبرير كل أفعاله المخالفة وكل ما يتلقاه من أموال من ورائها بحجج يزعم
بأنها شرعية، وفي حقيقتها تلبيساتٌ شيطانية، وتأويلات فاسدة، ومخالفات شرعية،
واقرأ إن شئت في هذا كتاب "تلبيس إبليس" لابن الجوزي -رحمه الله-، والله
تعالى يقول: {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}
[القيامة: 13-15].
العبد المؤمن لا
سيما من أكرمه الله تبارك وتعالى بأن يكون من طلبة العلم الشرعي ومن الدعاة إليه يحذر
أشد الحذر من أن يكون عبداً للدينار والدرهم، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: (تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ
الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ،
وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ) [رواه البخاري].
أخيراً أقول ومن
أعماق قلبي لكل داعيةٍ فُتن بهذه الفتنة العظيمة: رِفقاً بنفسك، ورِفقاً بأتباعك،
ورِفقاً بالمجتمع، ورِفقاً بالوطن، ورِفقاً بالأمة، وكن داعيةً إلى الله تبارك
وتعالى على منهاج النبوة، ولا تجعل من دينك مطيةً لأغراضك الدنيوية، وكُل من
الطيبات كما أمرك ربك في محكم كتابه حينما قال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
[البقرة: 172].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق