الاثنين، 11 أغسطس 2025

معارك دعوية ! بقلم: د.أحمد العازمي

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فلا يخفى على متابعي الشؤون الإسلامية تلك المعارك الدائرة في الساحة الدعوية بين الجماعات والتيارات والأحزاب كتكتلات جمعية أو حتى ما بين الدعاة أنفسهم كأفراد بمختلف توجهاتهم الفكرية، فلا يزال التعصُّب والتشدد، وضيقُ الأفق، وقصور النظر، وعدم إدراك العواقب والمآلات هو المسيطر على العديد من التوجهات الفكرية، والمحرك لكثيرٍ من السلوكيات والأفعال في الساحة الدعوية العامة.

لا أقول بين كل فترة وأخرى نرى تلك المعارك التي تدور في الساحة الدعوية بل إن هذه المعارك لا تكاد تقف، ويُقحمُ الناسُ فيها إقحاماً، فهذا يكتب مقالاً مبيناً ضلالات فلان، وذاك يصور مقطعاً ينشر فيها الأخطاء المنهجية عند فلان، وآخر يحرض السلطة السياسية وأصحاب القرار فيها ضد شركائه في الدعوة، فضلاً عن خطط الجماعات والتيارات لإسقاط بعضها بعضاً، وتنافسهم "غير المحمود" في كثيرٍ من الأحيان؛ لنيل ما يسمى عندهم بالمكاسب، والاستحواذ على المناصب، وتوسيع دائرة النفوذ -كما يُقال-، وسياسة الإقصاء والتهميش التي يتم اتباعها تجاه كل من لم يكن من أتباع تلك الجماعة أو ذلك الحزب أو التيار، ناهيك عما يحدث من خلافات ونزاعات وانقسامات داخل الحزب والجماعة الواحدة، وتقديم المصالح الشخصية على المصالح الدعوية العامة! وكأنَّ الله تبارك وتعالى لم يقل في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]!

وبذلك كله ينقسم الناس ما بين أتباعٍ لهذه الجماعة أو تلك، وما بين مقدسٍ لفلان أو علاَّن، وما بين مؤيدٍ لهذا ومعارضٍ لذاك، ثم لا يلبث هذا الفريق وذاك حتى يتم تقسيم المقسَّم، وتجزئة المجزَّأ، فتضيع بذلك مصالح الدعوة والمجتمع والوطن والأمة! وكأن الله عز وجل لم ينههم عن ذلك في آياتٍ بيناتٍ في كتابه الكريم حينما قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 104-105]!

وكلما خمدت النار سارع البعض لإشعالها مرةً أخرى! وكأن قدر الدعوة المحتوم أن يستمر الصراع ليس ما بين الحق والباطل وإنما ما بين أتباع الدعوة أنفسهم، وكلما خرج من يذكر هذا الفريق أو ذاك بالمنهج النبوي الصحيح في الدعوة، وضرورة الالتزام به، والبعد عن كل ما وقعوا فيه من مخالفات في الجانب الدعوي، أعرضوا وعاندوا واستكبروا وزعموا بأن مسيرتهم الدعوية تسير بالاتجاه الصحيح رغم كل ما يرونه من خسائر وإخفاقات في الساحة الدعوية! وصدق الله حينما قال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].

إن ما يجري في الساحة الدعوية اليوم -في كثيرٍ منه- لا يمكن أن يوصف بأنه على منهاج النبوة في شيء، فدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت تسير باتجاهٍ مختلف، ولها طرقها وأساليبها، وكانت تقوم على تصحيح جانب المعتقد، وإفراد الله بالعبودية، وبيان الطريق الصحيح الموصل إلى الله تبارك وتعالى ومحبته ورضاه، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وإعلاء القيم والمبادئ، وبيان الأحكام والتشريعات المنظمة لشؤون المجتمع، ورفع الجهل، ونشر العلم، والتأكيد على رسالة الإسلام، والتسامح والتعايش القائم على الأصول الشرعية، والعمل على إعداد القوة التي يتم الدفاع بها عن المجتمع والوطن والأمة.

اختلاط المصالح الخاصة والشخصية بالمصالح العليا والعامة هو من أهم أسباب ما نراه اليوم من معارك في الساحة الدعوية، وهذا ما يدعونا إلى ضرورة التأكيد على وجوب إخلاص النية لله سبحانه وتعالى في كل عمل دعوي، وفي كل كلمة، وفي كل فعل، مع ضرورة السير على منهاج النبوة في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

الاجتهادات الشخصية في شؤون الدعوة بعيداً عن آراء العلماء الكبار، والاستبداد بالرأي داخل الجماعة الواحدة، تلك هي الأخرى من أسباب المعارك التي نراها في الساحة الدعوية، مما يستدعي إعادة النظر في إقامة المجالس الشورية الدعوية التي يقوم عليها كبار العلماء والفقهاء والحكماء، والرجوع إليها في حال الاختلاف، ولا مشاحة في تسميتها بمجلس شورى العلماء أو مجلس شورى الدعوة أو رابطة العلماء والدعاة أو مجلس الحكماء أو غيرها من المسميات التي تؤدي هذا الدور المطلوب منها، ولا بأس هنا بأن يتم اختيار دعاة يتَّسمون بالحكمة؛ ليكونوا سفراء صلحٍ ما بين الدعاة أو الجماعات المختلفة، فكل ذلك مما يخفف من حدة تلك المعارك في الساحة الدعوية، ويقرب من وجهات النظر المختلفة، وفق منهج الإسلام الذي يحتوي الجميع، ولا يقوم على الإقصاء عند الاختلاف في الرأي، فما أحوجنا إلى فقه الائتلاف!

نبذ الفرقة والاختلاف ليس أمراً ثانوياً في الدين، فله أثره البالغ في قوة المجتمع والأمة، وبقدر البُعد عن الفرقة والاختلاف المؤدي إلى الشقاق والنزاع تكون قوة المجتمع والأمة، والله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

أسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوبنا، ويهدينا سواء السبيل، ويجعل دعوتنا إليه خالصةً لوجهه الكريم، لا نبتغي بها رياءً ولا سمعةً ولا شهرةً ولا دنيا فانية.

والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

ليست هناك تعليقات: