تُعد قضية استثمار أموال الزكاة من المسائل الفقهية المعاصرة ، والتي تم طرحها كفكرة مُساهمة في تقليص عدد المحتاجين والفقراء من خلال استثمار أموال الزكاة من قبل ولي الأمر وإعادة توزيعها على عدد أكبر من المستحقين لها ، وقد تم مناقشة هذه القضية من قبل العلماء المعاصرين في العديد من المؤتمرات والندوات الفقهية .
وقد اختلفوا في هذه المسألة على قولين على وجه الإجمال والاختصار ، الأول : هو عدم الجواز؛ وذلك أن الله تبارك وتعالى جعل هذه الأموال مِلكاً لمصارف محددة في الآية التي بينت مصارف الزكاة وهي قوله جل وعلا : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وقالوا بأن اللام هنا للتمليك كما هو رأي الجماهير من العلماء ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك غيره بلا إذنه ، ويجب إعطاء هذه المصارف حقها في الزكاة على الفور إذ الأمر يقتضي الفورية على الصحيح من قولي العلماء ، وقالوا : بأنه لو كانت هناك مصلحةٌ من استثمار أموال الزكاة فعلاً والحاجة قائمةٌ لذلك لقام بها النبي عليه الصلاة والسلام ؛ إذ أن الحاجة كانت ماسةً جداً في عصره نتيجة انتشار الفقر والحاجة إلى تمويل الجيش الإسلامي .
وقالوا أيضاً : بأن استثمارها يؤدي إلى ضياعها وهلاكها ، وهذا صحيح إلا أنه يُمكن أن نقلل من نسبة الهلاك والضياع بوضع دراسة جدوى اقتصادية ، وبتضمين بيت المال وخزينة الدولة في حال ضياع أموال الزكاة من باب تضمين ما أتلفه الفضولي الوارد في كتب الفقهاء ومن باب تضمين من كان في يده ملكٌ لغيره وتعدى وقصر فيه ولو كانت يده يد أمانة .
القول الثاني : أنه يجوز استثمار أموال الزكاة ولكن بضوابط ؛ وعللوا قولهم هذا بأنه لا مانع شرعاً من استثمارها وتنميتها حتى يعم النفع لعدد أكبر من المستحقين للزكاة ، وقال بعضهم : أن اللام الواردة في الآية السابقة الذِّكر للاختصاص وليست للتمليك ولكن هذا مردود بأن الأصل في اللغة أن اللام للتمليك ولا يوجد هنا ما يصرف هذا الأصل فتبقى على أصلها أنها للتمليك ، وقال آخرون من القائلين بالجواز : بأن اللام وإن كانت هنا للتمليك إلا أنه يجوز لولي الأمر أن يؤخر صرف الزكاة إذا رأى في ذلك مصلحة ، ومن جملة المصالح في تأخيرها استثمارها لصالح المستحقين .
وقاسوا هذا الأمر أيضاً على جواز استثمار أموال اليتامى ، ولكن هذا القياس لا يُسلَّم به ؛ إذ أنه قياسٌ مع الفارق ، فأموال اليتامى قد جاءت الشريعة بالأمر باستثمارها حتى لا تأكلها الزكاة ، وأما الزكاة فإنه لم يؤمر باستثمارها وإنما أمر بإخراجها فوراً ودفعها إلى مستحقيها ، فيكون هذا من باب القياس في مورد النص الذي لا يصح .
ومع هذا كله فإن من قال بالجواز من أهل العلم قد وضعوا لذلك ضوابط لا يجوز أن يتعداها من أراد الأخذ بقولهم ، ومن هذه الشروط والضوابط : أن لا يكون هناك وجوه صرف عاجلة وأساسية كالطعام والمسكن مثلاً بالنسبة للفقراء ، وأن لا يُمنع المستحقين لأموال الزكاة من حقهم متى ما جاؤوا يطالبون بحقهم ، وأن يتولى عملية الاستثمار أناسٌ عدولٌ ثقاتٌ أمناء ، وأن يتم ذلك تحت إشراف هيئة شرعية للنظر فيما تُستثمر فيه أموال الزكاة وتكون قراراتها مُلزمة وليست استشارية فحسب ، وأن لا تدخل في استثمار إلا بعد دراسة جدوى اقتصادية ، وأن تضمن الدولة الخسارة إذا ما خسرت في الاستثمار ، ولا يكون ذلك من قبيل القمار ؛ لأنها قد تصرفت فيما ليس بملكٍ لها وبلا إذنٍ من ملاكها ، فيكون هذا من قبيل تصرف الفضولي الذي يضمن به صاحبه ما أتلفه ونستطيع تخريجه أيضاً كما أشرت إلى ذلك سابقاً على أن يد تلك الجهة المستثمرة يد أمانة ومن كانت يده يد أمانة فإنه لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير ، وبإهلاك وتضييع أموال الزكاة فإن ذلك يُعتبر تعدٍ من تلك الجهة وتقصيرٌ في واجبها في صرف الزكاة على مستحقيها وبالتالي فإنه يجب عليها الضمان في هذه الحال ، ومن ضمن الضوابط أيضاً أن يكون هناك محاسبة ورقابة مالية دقيقة لئلاَّ يُتلاعب بأموال الزكاة .
كل هذه الشروط والضوابط يجب الالتزام بها متى رجحنا القول الثاني وهو جواز استثمار أموال الزكاة ، وبناءً على ذلك فلا يجوز دفع الزكاة لأيِّ جهة أخلَّت بتلك الشروط والضوابط ، وعلى مُخرجي الزكاة أن يصرفوا زكاة أموالهم في الأوجه الثمانية التي نصَّ عليها القرآن .
وعلى من أراد استثمار أموال الزكاة أن يتقي الله تبارك وتعالى في هذه الأموال ، فإنها أمانةٌ في عنقه ، وهي حقٌ ثابتٌ للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ، فكل هؤلاء سيطالبون بحقوقهم متى ما أضاع القائمون على جمع الزكاة تلك الأموال ، وإذا كان هؤلاء لا يستطيعون نيل تلك الحقوق في الدنيا فإن هذا الحق لن يضيع أبداً عند الله تبارك وتعالى يوم القيامة .
ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليقرأ كتاب استثمار أموال الزكاة والأموال الواجبة حقاً لله تعالى للدكتور صالح الفوزان وهي رسالته في الماجستير ، وبحث استثمار أموال الزكاة رؤيةٌ فقهيةٌ معاصرة للدكتور محمد عثمان شبير وهو منشور في كتاب أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق