هناك قاعدة عند أهل فن الإلقاء ومخاطبة الجماهير تقول : بأنه بقدر تعلق الموضوع بواقع الناس بقدر متابعة الناس لك وتفاعلهم معك .
وهذه القاعدة ينبغي على جميع الخطباء أن يراعوها ويدركوا معناها ، فلا يكون خطابهم وحديثهم في وادٍ والناس في وادٍ آخر ، بمعنى : أن الناس حينما يحتاجون إلى بيانٍ شرعي في قضيةٍ هم يعايشونها في واقعهم ينبغي على الخطيب أن يبين وجهة النظر الشرعية فيها ولا يكتم هذه النظرة في ذلك الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى بيان وينبغي عليه أن يبين للناس واجبهم تجاه تلك الفتن والأحداث والأزمات ، وكما هو معلومٌ عند من له أدنى علم وفقه بالشريعة الإسلامية أن العلماء متفقون على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، والله تبارك وتعالى يقول : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } ، ويقول سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
ولا شك بأن مشاركة الناس فيما يُعايشونه من فتنٍ وأحداثٍ وأزماتٍ وبيان وجهة النظر الشرعية في ذلك كله هو من واجبات الخطيب وهو من عوامل الرقي بالخطابة ومن أسباب نجاح الخطيب ، والعكس صحيح فمن عوامل سوء الخطابة وفشل الخطيب وضعف تأثيره على الناس هو التغريد خارج السرب .
وإن مما يؤسف له أن الأمة الإسلامية عاشت ولا زالت تعيش في لحظاتٍ وأيامٍ هي من أصعب لحظاتها وأيامها من خلال ما جرى في تونس ومصر وليبيا والبحرين وسوريا واليمن ومع ذلك كله تجد أن بعض الخطباء لم يتكلم ببنت شفة في تلك الأحداث وكأنه يعيش في كوكبٍ آخر غير الكوكب الذي نعيش فيه ! مُعرضاً بذلك عن قوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا ( ، ومتناسياً قوله عليه السلاة والسلام : ( مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم كالجسَد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الأعضاء بالسهَر والحمَّى ) !
إن مسؤولية الخطيب في توجيه الناس وبيان وجهة النظر الشرعية تجاه الفتن والأحداث والأزمات تفرض عليه أن يكون بقدر هذه المسؤولية التي تحمل زمامها وعليه أن يمارس استقلاليته في الخطابة وأن لا يتلقى خطبه وما سيلقيه على الناس عن طريق بعض الجهات المسؤولة إن لم يكن هو مقتنعاً بما يوجَّه به ويُرشد إليه ، فالخطيب المؤهل له كامل الاستقلالية في الشريعة الإسلامية ولا يجوز لأحد أن يحاسبه على كلامه الذي يقوله إن لم يكن فيه مخالفة للشريعة الإسلامية .
ومن المعلوم أنه أحياناً يكون لدى بعض الجهات المسؤولة عن الخطباء بالدول العربية والإسلامية وجهة نظر في بعض المسائل وقد تكون هذه الوجهات النظر سياسية بحتة بل قد تكون في بعض الأحيان مصادمة للشريعة الإسلامية ! فهنا يجب على الخطيب إن كان ما وجِّه به مصادم للشريعة أن يرده ويرفضه ولا ينصاع له ؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولو أدى ذلك إلى توقيفه عن الخطابة ، فلئن يوقف عن الخطابة خيرٌ له من أن يكون معول هدمٍ للشريعة الإسلامية وللمجتمع الإسلامي .
وأما إن كان ما وجه به مجرد رأي في المسألة وقد تبنت تلك الجهة ذلك الرأي وهو مما يقبل الاجتهاد فيظهر لي هنا كذلك بأن لا يأخذ هذا الخطيب بهذا الرأي إلا إن كان مقتنعاً به ، وذلك أن هذا دين يدين المسلم به لربه ، فكيف يسوغ للخطيب أن يُلقي على الناس كلاماً هو غير مقتنع به أصلاً ولا يدين الله تبارك وتعالى به بل يراه رأياً خاطئاً ؟! ثم إن الخطيب ينبغي أن يكون مجتهداً وليس مقلداً لغيره ، وعليه أن يبين رأيه بكل حرية خصوصاً في البلاد التي كفل دستورها وقانونها حرية الرأي والتعبير للأفراد .
وهناك من باب الأمانة العلمية رأيٌ آخر في المسألة وهو أن الخطيب عليه أن يلتزم بذلك الرأي من باب أن هذا هو رأي ولي الأمر ، وحكم ولي الأمر يرفع الخلاف في المسائل الخلافية ، ولكن يجاب على ذلك : بأن هذه القاعدة ليس على إطلاقها ولا تنطبق إلا في القضاء إذ فيه إلزام وليس في الإفتاء وفي المسائل العامة التي لا إلزام فيها ، ثم إن هذه القاعدة في الحاكم وليس في مجموعة أشخاص معينين من قبل الحاكم وهم موظفون بالإدارة المسؤولة عن الخطباء ، فلا ينطبق عليهم حكم ولي الأمر ، ثم إن في ذلك مصادرة لآراء الآخرين ، والدولة بحكم الدستور والقانون قد كفلت حرية الرأي والتعبير وهذا يصادم هذا الدستور وهذا القانون الذي أقره ووضعه ولي الأمر .
فينبغي على الجهات المسؤولة عن الخطباء بالدول العربية والإسلامية عموماً أن تحترم الخطباء وتعطيهم استقلاليتهم في الخطابة وتحفظ لهم كرامتهم وتحترم آراءهم ولا تصادر عقولهم فضلاً عن أن تُشهر في وجوههم سيف الإيقاف عن الخطابة بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة .
ومع إقرارنا بذلك كله إلا أننا نحذر الخطيب من الحديث في أمرٍ من الأمور لا يدرك جميع حيثياته ؛ إذ أن مثل هذه الملمات والمدلهمات والفتن العظيمة والأزمات الكبيرة تحتاج إلى شيءٍ من الحكمة والتأني والتروي والدراسة العميقة ، وعليه أن لا يتسرع في الحكم على الشيء قبل تصور أبعاده كلها ؛ إذ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره كما قرر العلماء ، وعليه كذلك أن يستقصي جميع المعلومات فيما يريد الحديث والخوض فيه ، وأن يتثبت مما يُنقل له من معلومات وأن لا يستقي الأخبار إلا من المصادر الموثوقة وأن يكون لديه تواصلٌ مع علماء ومشايخ البلد لمناقشة تلك النازلة أو الفتنة أو الحدث أو الأزمة ويكون بينه وبين بقية إخوانه من الخطباء كذلك لقاءات لبحث سبل معالجة تلك الأوضاع وكيفية الخروج منها ، وبهذا يتم تلاقح الأفكار ووضع الوسائل المناسبة للخروج مما تعيشه البلاد من فتنةٍ وأزمة .
وإن كان الخطيب يريد الحديث عن أزمةٍ يعيشها إخواننا في بلادٍ أخرى فلا بد عليه هنا من التواصل مع علماء ومشايخ تلك البلاد ؛ وذلك ليكون على علمٍ ودرايةٍ تامة بما يحدث هناك ويعرف رأي علماء البلد فيما وقع بهم من فتنةٍ وأزمة .
ولا يخفى هنا أيضاً أهمية التواصل مع المسؤولين الثقات في الدولة التي حلت بها تلك الفتنة أو حدثت بها تلك الأزمة ؛ وذلك ليستفيد الخطيب مما قد يكون ذلك المسؤول مطلعاً عليه وهو خافٍ عنه وعن عموم الناس ، وبالتالي فإن حكمه بعد ذلك على تلك الفتنة والحدث والأزمة يكون منضبطاً ومتزناً ورصيناً ودقيقاً ، وعليه بعد أن يطلع على الموضوع من جميع جوانبه وحيثياته أن يتواصل مع المسؤولين لإيصائهم بحقوق الرعية وبرفع الظلم والفساد الواقع في البلاد وأن يبين لهم بأن هذا الظلم وهذا الفساد الموجود في البلاد هو من أهم أسباب وقوع البلاد في مثل تلك الفتن والأحداث والأزمات .
وإن مما ينبغي على الخطيب أيضاً في تلك الأزمات أثناء مخاطبة الجماهير أن يكون كلامه دقيقاً وواضحاً لا لبس فيه ولا غموض ، وعليه كذلك أن يُعمل القواعد والضوابط الشرعية في الحديث عن مثل هذه الفتن والأحداث والأزمات التي تمر بالأمة الإسلامية وأن يعرف ضوابط تنزيل الحكم الشرعي على الفتنة والأزمة الواقعة ، وينبغي عليه كذلك أن لا يُغفل قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقه الأولويات والموازنات والمصالح والمفاسد ومآلات الأفعال ومقاصد الشريعة وغير ذلك من القواعد والضوابط الشرعية المرعية التي وضعها العلماء ؛ حتى لا يفسد من حيث أراد الإصلاح .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق